الخميس، 11 سبتمبر 2014

تفنيد اقوال ابن حجر الهيتمي بابن تيمية


فصـــل
وقد آن الشروع في أجوبة ما عزاه الشيخ ابن حجر عليه الرحمة إلى الشيخ ابن تيمية قدس سره ، مع تفصيل ما أجمله وتقييد ما أطلقه ، وبيان ما أهمله ، وبالله سبحانه ، وهو الملهم لصواب والإبانة .
( قوله : نبه عليها التاج السبكي ) لا يخفى عليك بعد ما أحطت خبراً بما تقدم من عبارة سل الحسام الهندى والنزهة وغيرهما أن نقل التاج السبكي وأبيه العلامة غير مقبولا في حق الشيخ . ويكفي في ذلك شاهداً كتاب (( الصارم المنكي في الرد على السبكي )) الذى ألفه الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي ، المتقدمة ترجمته ، الآتية إن شاء الله تعالى في محلها ( 2 ) – عبارته . لا سيما قد ورد في بعض الآثار : (( إن الحب والعداوة يثوارثان )) غير أن بعض القوال في الحقيقة قد أختارها الشيخ مستدلاً بأدلة يأتى تفصيلها بعون الحق المتعال.

[ رأى ابن تيمية في يمين الطلاق ]
( قوله : قوله في يمين الطلاق إنه لا يقع بل عليه كفارة يمين إلخ )
قال الشيخ ابن تيمية في فتاواه ما نصه : إذا حلف الرجل بالحرام فقال : الحرام يلزمني لا أفعل كذا ، أو الحل على حرام لا أفعل كذا أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا ، أو ما يحل على المسلمين يحرم على إن فعلت كذا ، ونحو ذلك وله زوجة ؟
ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف . ولكن القول الراجح : أن هذه يمين من الأيمان ، لا يلزمه بها طلاق لو قصد بذلك الحلف بالطلاق ، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه ، حتى لو قال : أنت حرام ، ونوى به الطلاق عند عامة العلماء . وفي ذلك أنزل الله تعالى القرآن ، فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقاً ، والإيلاء طلاقاً ، فرفع الله تعالى ذلك كله ، وجعل في الظهار الكفارة الكبرى ، وجعل الإيلاء يميناً يتربص فيها الرجل أربعة أشهر ، فأما أن يمسك بمعروف ، واما أن يسرح بإحسان .
-------------------------------
( 1 ) كذا في الأصل . ويلاحظ أنها ممنوعة من الصرف .
( 2 ) قوله (( في محلها )) أى في بحث شد الرحال . أهـ . من هامش الأصل .
       كذلك قال كثير من السلف والخلف : إنه إذا كان مزوجاً فحرم امرأته ، أو حرم الحلال مطلقاً كان أو مظاهراً . وهذا مذهب أحمد .
وإذا حلف بالظهار أو الحرام لا يفعل شيئاً وحنث في يمينه ، أجزأته الكفارة في مذهبه .
لكن قيل : إن الواجب كفارة الظهار ، وسواء حلف أو أوقع ، وهو المنقول عن احمد . وقيل : بل إن حلف أجزأته كفارة يمين ، وإن أوقعه لزمته كفارة ظهار .
وهذا اقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره . فالحلف بالظهار يجزئه الحالف بالنذر إذا قال : إن فعلت كذا فعلي الحج ، أو مالي صدقة وكذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين . وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ أيضاً فيه كفارة يمين ، كما أفتى به من السلف والخلف جمع .
والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك بل معناه يوافقه ، فهو يمين يحلف بها المسلمون في ايمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة .
وأما إذا كان مقصود الرجل أن يظاهر أو يطلق أو يعيق فهذا يلزمه ما أوقعه ، سواء معلقاً أو منجزاً ولا يجزئه كفارة يمين . والله تعالى أعلم . انتهى .

[ الطلاق المخالف للسنة ]
وفي الميزان للشعراني ما تعلم منه الاختلاف أيضاً في مشبه هذه المسألة ما نصه : ومن ذلك قول أبي حنيفة : لو قال لزوجته أنت علي حرام ، فإن نوى الطلاق بذلك كان طلاقاً ، وإن نوى الطلاق ثلاثاً كان ثلاثاً ، وإن نوى أثنتين أو واحدة فإن نوى التحريم ولم ينو الطلاق ، أو لم يكن لديه نية فهو يمين ، وهو مول إن تركها أربعة أشهر ، وقعت عليه طلقة بائنة .
وإن نوى الظهار كان مظاهراً ، وإن نوى اليمين كانت يميناً ، ويرجع إلى بيته كم أراد بها ، واحدة او أكثر ، سواء المدخول بها وغيرها . مع قول مالك : إن ذلك طلاق ثلاثاً إن كانت مدخلاً بها ، وواحدة إن كانت عير مدخول بها .
ومع قول الشافعي : إن نوى بذلك الطلاق أو الظهار كان ما نواه وإن نوى اليمين لم يكن يميناً ، ولكن عليه كفارة يمين . ومع قول أحمد في أظهر روايتيه : إن ذلك صريح في الظهار نواه أو لم ينوه ، وفيه كفارة الظهار ، والثانية أنه طلاق . أنتهى .
فتبين مما مر آنفاً أن نقل الشيخ ابن حجر عن الشيخ ابن تيمية ، ليس على إطلاقه . وقوله (( لم يقله أحد قبله )) غير مسلم . كيف وقد قال به جمع من السلف والخلف . ومع هذا فهي مسألة كأمثالها يساغ فيها الاجتهاد ، فكن ممن تامل وانصف .

( قوله : وأن طلاق الحائض لا يقع ، وكذا الطلاق في طهر جامع فيه )
أقول : سيأتى إن شاء الله تعالى الكلام على هذا في بحث الطلاق الثلاث ، وان النبي r قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض (( ما هكذا أمرك الله تعالى ؟ إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة )) وما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر : (( مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء )) فقد أخرج الشافعي ومالك والشيخان عن ابن عمر : أنه طلق امراته وهي حائض ، وذكر ذلك عمر لرسول الله r فتغيظ فيه رسول الله r ثم قال : (( ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها طاهراً قبل أن يمسها ، فتلك العدة التى امر الله تعالى ان يطلق لها النساء – وقرا عليه الصلاة والسلام ))] يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن [ [ الطلاق : 1 ] وكان ابن عمر يقرأ كذلك ، وكذلك ابن عباس .
قال الوالد عليه الرحمة في تفسيره روح المعاني : وفي وقوع الثلاث بلفظ واحد ، وكذا في وقوع الطلاق مطلقاً في الحيض خلاف ، فعند الإمامية لا يتبع الطلاق بلفظ الثلاث ، ولا في حالة الحيض ، لأنه بدعة محرمة ، وقد قال r : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين . أنتهى .
وجمهور الفقهاء جعلوه بدعياً ويقع الطلاق به . قال في الدر المختار . والبدعي ثلاث متفرقة ، او ثنتان بمرة أو مرتين في طهر واحد لا رجعة فيه ، أو واحدة في طهر وطئت فيه ، أو واحدة في حيض موطوءة أى مدخول بها وتجب رجعتها فيه ، فإذا طهرت طلقها إن شاء . انتهى .
وإنما كان بدعياً محرماً لتطويل عدة المطلقة إذ ذاك . فتدبر .
وقال السيد العلامة أبو الطيب حماه الله تعالى في الروضة الندية : هذه المسألة من المعارك التى لا يجول في حافاتها إلا الأبطال ، ولا يقف على تحقيق في ابوابها إلا أفراد الرجال ، والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب ، فمن رام الوقوف على سرها فعليه بمؤلفات ابن حزم ، كالمحلى ومؤلفات ابن القيم كالهدى . وقد جمع الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك رسالة حافلة وقرر ما ألهم الله إليه .
وذكر الإمام العلامة محمد الشوكاني في شرحه للمنتقى أطرافاً من ذلك قال : والحاصل أن الأتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السن يقال له طلاق بدعة ، وقد ثبت عنه r (( أن كل بدعة ضلالة )) ولا خلاف أيضاً أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه ، وبينه رسوله r في حديث ابن عمر ، وما خالف ما شرعه الله ورسوله فهو رد لحديث عائشة عنه r : (( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد )) وهو حديث متفق عليه . فمن زعم أن هذه البدع يلزم حكمها ، وان هذا الامر الذى ليس من أمره r يقع من فاعله ويعتد به لم يقبل إلا بدليل ولا دليل . انتهى .


[ تارك الصلاة عمداً هل يقضى ]
( قوله : وإن الصلاة إذا تركت عمداً لا يجب قضاؤها )
– قلت : وإلى هذا ذهب أيضاً الشيخ محيى الدين ابن عربي في فتوحاته ، ونصه : وصل في فصل ( العامد والمغمى عليه ) – أختلف العلماء فيه ، فمن قائل : إن العامد يجب عليه القضاء . ومن قائل : لا يجب عليه القضاء ، وبه أقول ، وما أختلف فيه أحد أنه آثم ، وأما المغمى عليه ، فمن قائل : لا قضاء عليه ، وبه أقول . ومن قائل : بوجوب القضاء وهو الأحسن عندي ، فإنه إن لم تكتب له في نفس الأمر فريضة كتبت له نافله فهو الأحوط .
والقائلون بوجوب القضاء : منهم من أشترط القضاء في عدد معلوم فقالوا : يقضى في الخمس فما دونها ، ( وصل الاعتبار في ذلك ) . وأما العامد في ترك ما أمره الله تعالى به فلا قضاء عليه ، فإنه ممن أضله الله على علم ، فينبغي أن يسلم إسلاماً جديداً فإنه مجاهر . أنتهى .
قال الشيخ ابن تيمية في الفتاوى : مسألة في رجل من اهل القبلة ترك الصلاة مدة سنين ، ثم تاب بعد ذلك ، وواظب على ادائها ، فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا ؟
الجواب : الحمد لله .
أما من ترك الصلاة أو فرضاً من فرائضها فإما أن يكون قد ترك ذلك ناسياً له بعد علمه بوجوبه ، وإما أن يكون جاهلاً بوجوبه ، إما أن يكون له عذر يعتقد معه جواز التأخير ، وإما أن يكون عالماً عامداً . فأما الناسي للصلاة فعليه أن يصليها إذا ذكرها بسنة رسول الله r المستفيضة عنه باتفاق الأئمة ، قال r : (( من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها )) لا كفارة لها إلا ذلك . وقد أستفاض في الصحيح وغيره أنه نام هو واصحابه عن صلاة الفجر في السفر فصلوها بعدما طلعت الشمس . السنة والفريضة بأذان وإقامة .
وكذلك من نسى طهارة الحدث وصلى ناسياً فعليه أن يعيد الصلاة بالطهارة بلا نزاع ، حتى لو كان الناسي إماماً كان عليه أن يعيد الصلاة ، ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء ، كمالك والشافعي واحمد في المنصوص المشهور عنه ، كما جرى ذلك لعمر وعثمان .
واما من نسى طهارة الخبث فإنه لا إعادة عليه ، وهو مذهب مالك واحمد في أصح الروايتين عنه ، والشافعي في احد قوليه ، لأن هذا من باب فعل المنهي عنه ، وتلك من ترك المأمور به ، ومن فعل ما نهى عنه ناسياً فلا إثم عليه بالكتاب والسنة ، كما جاءت به السنة فيمن أكل في رمضان ، وهو مذهب ابي حنيفة والشافعي وأحمد .
وطرد ذلك فيمن تكلم في صلاته ناسياً ، ومن تطيب ولبي ناسياً كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه . وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسياً كما هو أحد القولين عن الشافعي وأحمد . وههنا مسائل قد تنازع العلماء فيها ، كمثل من نسى الماء في رحله وصلى بالتيمم ، وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها .
واما من ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها مثل من أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال : وجهان في مذهب أحمد ، أحدهما – عليه الإعادة مطلقاً ، وهو قول الشافعي ، واحمد الوجهين في مذهب أحمد . والثاني – عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الحرب ، وهو مذهب ابي حنيفة ، لأن دار الحرب دار جهل يعذر فيه بخلاف دار الإسلام .
والثالث – لا إعادة عليه مطلقاً ، وهو الوجه الثاني في مذهب أحمد وغيره . وأصل هذين الوجهين أن حكم الشارع هل ثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره : أحدها – يثبت مطلقاً والثاني – لا يثبت مطلقاً . والثالث – يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ ، كقضية أهل قباء ، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عزل فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم ؟ وعلى هذا لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص مثل أن يأكل لحم الإبل ولم يتوضا ثم يبلغه النص ويتبين له وجوب الوضوء ، ويصلى في أعطان الإبل ثم يبلغه ويتبين له النص فهل عليه إعادة ما مضى ؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد ، ونظيره أن يمس ذكره ويصلى ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر .
والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة ، لأن الله تعالى عفا عن الخطأ والنسيان ، ولأنه قال : ] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [ [ الإسراء 15 ] فمن لم يبلغه أمر الرسول r في شئ معين لم يثبت حكم وجوبه عليه ، ولهذا لم يامر النبي r عمر وعماراً لما أجبنا فلم يصل عمر وصلى عمار بالتمرع – أن يعيد واحد منهما . وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب يمكث أياماً لم يصلى . وكذلك لم يامر من أكل من الصحابة حتى يتبين الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء . كما لم بأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ بالقضاء .
ومن هذا الباب المستحاضة إذا مكث مدة لا تصلى لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها ، ففي وجوب القضاء عليها قولان : أحدهما – لا إعادة عليها كما نقل عن مالك وغيره : أن المستحاضة التى قامت للنبي r : إني حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة ، منعتنى الصلاة والصيام أمرها بما يجب في المستقبل ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضي .
وقد ثبت عندي بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادي وغير البوادي من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة ، بل إذا قيل للمرأة : ثلى تقول : حتى أكبر واصير عجوزاً ، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة العجوز ، ونحوها ، وفي أتباع الشيوخ ناس كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم .
فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلاة ، سواء كانوا كفاراً أو معذورين بالجهل ، وكذلك من كان منافقاً زنديقاً يظهر الإسلام ويبطن خلافه ، وهو لا يصلى أو يصلى أحياناً بلا وضوء ولا يعتقد وجوب الصلاة ، فإنه إذا تاب من نافقه وصلى فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء .
والمرتد الذى كان يعتقد وجوب الصلاة ثم أرتد والعياذ بالله تعالى عن الإسلام ، ثم عاد لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه ، فإن المرتدين الذين أرتدوا على عهده r كعبد الله بن أبي سرح وغيره مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا ولم يؤمر أحد منهم بقضاء ما تركوه .
وكذلك المرتدون على عهد أبي بكر لم يؤمروا بقضاء الصلاة .
وأما من كان عالماً بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة . وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء . وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمداً . والله تعالى أعلم أهـ .
ونقل ابن رجب عن الشيخ ابن تيمية أنه قال : لكنه يكثر من النوافل . ورأيت في بعض كتب المالكية ما نصه : من تعمد ترك صلاته حتى يخرج وقتها فعليه القضاء والاستغفار إذا كان مستيقناً ، ومن ظهر عليه ترك صلاته مستخفاً بها ومتوانياً عنها أمر بفعلها ، فإن أمتنع من ذلك هدد وضرب  فغن أقام على أمتناعه قتل حداً لا كفراً ، وورثه ورثته ودفن في مقابر المسلمين ت (1 ) المشهور القضاء مع العمد ، وقاله ح و ش .
وقال ابن حبيب : لا يجب القضاء وابن حنبل بناء على أن ترك الصلاة مع الأعتراف بوجوبها كفر والكافر لا يصلى : المرتد إذا مات لا يقضى واحتجا بقوله r : (( بين المؤمن والكافر ترك الصلاة )) لنا قوله r : (( خمس صلوات أفترضهن الله عز وجل ، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن ، وتمم ركوعهن وخشوعهن له عند الله عهد ، إن يشأ يعذبه وإن يشأ
---------------------------------
( 1 ) إشارة للتأتى ، ح و ش الآيتان إشارة للحطاب والخرش .
 يدخله الجنة )) أخرجه أبو داود وابن عبد الرحمن السلمي لا يقضى المتعمد ، لأن عموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( من نام عن صلاة أو نسيها )) أن المتعمد لا يقضى . لما أنه آثم فهو اولى بالتغليظ عليه القضاء .
       وفي بعض الطرق : لا كفارة لها إلا ذلك . والإثم أولى بلا تكفير أو تقول : المراد بالناسي التارك مطلقاً ، لقوله تعالى : ] نسوا الله فنسيهم [ أى تركوا مع العمد . أنتهى .
( قلت ) : ولعل ما ذكره الأصوليون من قولهم . إذا خرج المكلف الواجب عن وقته المعين له شرعاً فهل يجب القضاء بالأمر السابق ، بمعني أنه يستلزمه لا أنه عينه ، أم لا يجب القضاء إلا بأمر جديد ؟ فيه مذهبان وبالأول قال القاضي عبد الجبار من المعتزلة ، والرازي الإمام فخر الدين ، وحكى عن الشيرازي أبي إسحاق ، وبالثاني قال الأكثرو ، أنتهى . أصل لقول من لا يوجب القضاء لأنه لم يرد فيه أمر جديد ، بل الأمر الجديد ورد في حق الناسي والنائم عمداً كما مر فتدبر.

[ هل يباح للحائض الطواف بدون كفارة ]
( قوله : وإن الحائض يباح لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها ) –
أقول : هذا قول لأبي حنيفة أيضاً وغيره ، فقد قال الشيخ أحمد بن أحمد الطيبى الشافعي في منظومة في تقليد ابي حنيفة رحمه الله تعالى :                  [ رجـــز ]
ولم يقل شرط الطواف الطهر
أو حائض وهجمت وطافت
فإن يكن حجاً فدت ببدنة


فإن يضق بنفساء الأمر
فهو صحيح وفدت وتابت
أو اعتماراً فبشاة بينه أهـ

قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه الميزان ما نصه : ومن ذلك قول الشافعي وأحمد : إن المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة لم تنفر حتى تطهر وتطوف ، ولا يلزم الجمال حبس الجمل لها بل ينفر مع الناس ويركب غيرها ، مع قول مالك إنه يلزمه حبس الجمل أكثر من مدة الحيض وزيادة ثلاثة أيام ، مع قول أبي حنيفة إن الطواف لا يشترط فيه طهارة فتطوف وتدخل مع الحاج ، وقد أفتى البارزى النساء اللاتى حضن في الحج بذلك ونقله عن جماعة من الشافعية ، انتهى .
وفي فتاوى المرشدي الحنفي ما نصه : وسئل عن عبارة في أختلاف الأئمة إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة لم تنفر حتى تطوف وتطهر ، ولا يلزم الجمال حبس الجمل أكثر من مدة الحيض وثلاثة أيام . وعند ابي حنيفة رحمه الله تعالى ان الطواف لا يشترط فيه الطهارة ، فهل يجوز تقليده ، أم يكفيها الأخذ بقوله ؟ فأجاب عدم اشتراط الطهارة له عنده صحيح ، وأخذه من قوله تعالى ] وليطوفوا بالبيت العتيق [ [ الحج 29 ] والنص مطلق ، والطهارة فيه ثبتت بفعله عليه الصلاة والسلام .
ودار ذلك بين كونها بياناً وبين كونها سنة ، فتوسطنا في ذلك وقلنا بالوجوب ، فيقع الطواف بين الحدثين معتداً به لكونه يجبر مع الحدث الأصغر بشاة ، ومع الأكبر ببدنة ، والله تالى اعلم . انتهى .
ونقل الشيخ محمد سعيد السويدي الشافعي البغدادي في رسالته المؤلفة في التقليد عن البارزي أيضاً فيمن حاضت قبل طواف الركن : أنه يجوز لها تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة . انتهى .
وفي فتاوى الشيخ ما نصه : سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني نفعنا الله تعالى بعلومه عن المرأة إذا جاءها الحيض في وقت الطواف ما الذى تصنع ؟
فأجاب : الحمد لله ، الحائض تقضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فإنها تجتهد أن لا تطوف بالبيت إلا وهي طاهر ، فإن عجزت عن ذلك ولم يمكنها التخلف عن الركوب حتى تطهر وتطوف فإنها إذا طافت طواف الزيارة وهي حائض أجزأها في أحد قولي العلماء .
ثم قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : لو لم يكن لها عذر لكن وجب عليها بدنة . والإمام أحمد رحمه الله تعالى أوجب على ترك الطهارة ناسياً دماً وهو شاة واما هذه العاجزة عن الطواف وهي غير طاهر فإن أخرجت دماً فهو أحوط ، وإلا فلا يتبين أن عليها شيئاً ، فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقال تعالى : ] واتقوا الله ما أستطعتم [ [ التغابن 16 ] .
وقال النبي r : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أستطعتم )) وهذه لا تستطيع إلا هذا ، والصلاة أعظم من الطواف ، ولو عجز المصلى عن شرائطها من الطهارة أو ستر العورة أو استقبال القبلة صلى على حسب حاله ، فالطواف أولى بذلك . كما لو كانت مستحاضة ولا يمكنها أن تطوف إلا مع النجاسة نجاسة الدم بدون الطهارة ، فإنها تصلى وتطوف على هذه الحالة باتفاق المسلمين ، وإذا توضأت وتطهرت فعلت ما تقدر عليه .
وينبغي للحائض إذا طافت أن تغتسل وتتحفظ كما تفعله عند الإحرام وقد أسقط النبي r عن الحائض طواف الوداع وأسقط عن أهل السقاية والرعاية المبيت بمنى لأجل الحاجة ولم يوجب عليهم دماً ، فإنهم معذورون في ذلك بخلاف غيرهم .
وكذلك من عجز عن الرمي بنفسه لمرض ونحوه فإنه يستنيب من يرمى عنه ولا شئ عليه ، وليس من ترك الواجب للعجز كمن تركه لغير ذلك . والله تعالى أعلم ، أنتهى فليفهم .


[ هل يرد الطلاق الثلاث إلى واحدة ]
( قوله : وإن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة إلخ ) –
أقول : قد أختلف أقوال الصحابة والتابعين والعلماء المتقدمين والمتأخرين في وقوع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد ، كما أنهم أختلفوا في وقوعه حالة الحيض ، وقد كثرت الأدلة من الطرفين ، وبسطت الأجوبة من الجانبين في كتبهم المفضلة ، فمن الحنابلة الشيخ ابن تيمية في فتواه وغيرها ، وتلميذه ابن قيم الجوزية في أعلام الموقعين وغيره ، ومن الشافعية الشيخ ابن حجر في تحفة المحتاج وغيره ، ومن الحنفية ابن الهمام في فتح القدير ، وخير الدين الرملي ، وابن عابدين في حاشيته على الدر المختار ، والوالد في اماكن من تفسيره وغيرهم .
وكثرت الرسائل في ذلك ، ولنذكر مختصر مازبروه ، وتلخيص ما ذكروه . فمن ذلك ما قاله العلامة ابن القيم : إنه قد ذهب إلى عدم وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة جمع من الصحابة ، منهم الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعن علي وابن مسعود روايتان : ومن التابعين عكرمة وطاوس ، ومن تابعيهم محمد ابن إسحق ، وأفتى به داود بن علي على مذهب أهل الظاهر . قال : وأفتى به بعض أصحاب الإمام أحمد ، الإمام أحمد نفسه . أنتهى ، ثم بسط بقية الأدلة ، فإن أردتها فارجع إليه .
وقال الوالد عليه الرحمة ونفعنا الله تعالى به في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى : ] الطلاق مرتان [ [ البقرة 229 ] من كلام مطنب : لو طلق بلفظ واحد لا يقع إلا بواحدة كما هو مذهب الإمامية ، وبعض أهل السنة ، ومنهم الشيخ أحمد بن تيميه ومن أتبعه احتجاجاً بهذه الآية ، وقياساً على شهادات اللعان ورمي الجمرات ، فإنه لو أتى بالاربعة بلفظ واحد لا تعد له أربعاً بالإجماع . وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجز إجماعاً .
ومثل ذلك لو حلف ليصلين على النبي r ألف مرة فقال : صلى الله تعالى على النبي ألف مرة ، فإنه لا يكون باراً ما لم يأت بآحاد الألف ، وتمسكاً بما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله r وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد أستعجلوا في امر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه .
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضاً ، لما أخرج البيهقي عن أبن عباس قالوا : طلق ركانة امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله r : (( كيف طلقتها )) قال : طلقتها ثلاثاً ، قال : (( في مجلس واحد )) ؟ قال : نعم : قال : (( فإنما تلك واحدة ، فأرجعها إن شئت )) فراجعها .
وأجاب الجمهور بأن القياس على شهادات اللعان والرمي في غير محله ، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ، ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق ، ولعظم امر اللعان لم يكتف به غلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة ، مؤكدة بالإيمان ، مقرونة خامستها باللعن ، فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر ، أو يقام الحد ، ويكفر الذنب ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي ، وما ذكروا في مسألة الحالف في الصلاة فأمر أقتضاه القصد والعرف ، وأما الآية فليست نصاً في المقصود ، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة ، فعن مسلم عن جعفر بن محمد أنه قال : معاذ الله ! ما هذا من قولنا ؟ من طلق ثلاثاً فهو كافر كما قال . أنتهى باقتصار .
وإن أردت تفصيل أدلة الطرفين وأجوبتهما فعليك به ولا تغفل .
وقال العلامة ابن عابدين : والطلاق البدعي – أي الحرم – ثلاث متفرقة في طهر واحد . وكذا بكلمة واحدة بالأولى . وعن الإمامية : لا يقع بلفظ الثلاث ولا في حالة الحيض ، لأنه بدعة محرمة . وعن ابن عباس : يقع به واحدة ، وبه قال ابن إسحاق ، وطاوي وعكرمة ، لما في مسلم ان ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد النبي r ، وابي بكر وسنتين من خلافة عمر t طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد أستعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ، وذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ائمة المسلمين إلى أن يقع ثلاث .
قال في الفتح بعد سوق الأحاديث الدالة عليه : وهذا يعارض ما تقدم واما إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له ولعلمه بانها كانت واحدة فلا يمكن إلا وقد أطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لذلك ، لعلهم بإناطته بمعان علموا أنتفاءها في الزمن المتأخر . وقول بعض الحنابلة : توفى رسول الله r عن مائة ألف عين راته فهل صح لكم عنهم أو عن عشر عشر عشرهم القول بوقوع الثلاث باطل .
واما أولاً – فإجماعهم ظاهر ، لأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه خالف عمر حين أمضى الثلاث ، ولا يلزم في نقل الحكم الإجماعي عن مائة ألف تسمية كل في مجلد كبير لحكم واحد على انه إجماع سكوتي .
وأما ثانياًُ – فالعبرة في نقل الإجماع نقل ما عن المجتهدين والمائة الألف لا يبلغ عدة المجتهدين الفقهاء منهم أكثر من عشرين ، كالخلفاء والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ وأنس وأبي هريرة ، والباقون برجعون إليهم ويستفتون منهم , قد ثبت النقل عن أكثرهم صريحاً بإيقاع الثلاث ، ولم يظهر لهم مخالف فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وعن هذا قلنا : لو حكم حاكم بانها واحدة لم ينفذ حكمه ، لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه فهو خلاف لا اختلاف . وغاية الأمر فيه أن يصير كبيع أمهات الأولاد ، أجمع على نفيه وكن في الزمن الأول يبعن . انتهى .
وأنت تعلم ان الحنابلة القائلين بعدم وقوع الثلاث يناقشون في هذه المقدمات ، لأن الإجماع لم يتم ، لما ثبت أن أبن عباس لم يوافق ، وكذا الزبير وعبد الرحمن وغير واحد من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، ولم ينعقد إجماع القرون الثلاثة على ذلك كما تقدم ، كما سيتضح من بحث الإجماع الآتى إن شاء الله تعالى ، وأن هذه المسالة يعدونها كسائر المسائل الخلافية التى لم يقم الإجماع عليها فللاجتهاد فيها مجال ، كذا قالوا .
وقال الوالد عليه الرحمة في سورة الطلاق من كلام طويل تفسيره ما نصه : والمراد بإرسال الثلاث دفعة واحدة ما يعم كونها بألفاظ متعددة ، كأن يقال : أنت طالق ، أنت طالق ، أو بلفظ واحد ، كان يقال : أنت طالق ثلاثاً ، وفي وقوع هذا ثلاثاًُ خلاف ، وكذا في وقوع الطلاق مطلقاً في الحيض ، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث ، ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة ، وقد قال r : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين .
وقال قوم منهم – فيما قيل – طاوس وعكرمة : الطلاق ثلاث بفم واحد يقع به واحدة .
وروى هذا أبو داود عن ابن عباس ، وهو أختيار الشيخ ابن تيمية من الحنابلة . وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله r وابي بكر وصدراً من خلافة عمر t ؟ قال : نعم . وفي رواية لمسلم : أن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله r وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر : إن الناس قد أستعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فامضاه عليهم . ومنهم من قال في المدخول بها : يقع ثلاث وفي الغير واحدة ، لما في مسلم وأبي داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال : أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاًُ قبل أن يدخل بها جعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله r وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر . ؟ الحديث.
والذى ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ائمة المسلمين ومنهم الأئمة الأربعة – وقوع الثلاث بفم واحد . ثم أجاب بما تقدم بعضه وأطال ، وبسط القيل والقال ، فإن أردت كمال الوقوف على هذه المسألة فارجع إليه وإلى الكتب المفصلة .
غير أنه قد تبين أن هذا القول لم ينفرد به الشيخ ابن تيمية ، وأن شبهته في ذلك قوية ، ومع ذا ، فهي من المسائل الاجتهادية . هذا ، ومن الغريب ما ذكرت الشيخ عبد الغني النابلسي عليه الرحمة في شرحه للطريقة المحمدية في هذه المسألة ما نصه : وقد رايت رسول الله r فسألته في المطلقة بالثلاث في المجلس الواحد ، كيف حكمه عندك يا رسول الله ؟ فقال : (( هي ثلاث )) كما قال (( لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره )) فقلت له إن جماعة من أهل الظاهر حكموا أنها واحدة ؟ فقال : (( هؤلاء حكموا بما وصل إليهم وأصابوا ، وحكى أنا في المسألة ما ذكرت لك )) وفي رؤيا طويلة ، فمن ذلك الوقت صرت أقول بهذا الحكم عن رسول الله r . انتهى بحروفه .
قال العلامة الشوكاني في الدرر البهية : الراجح عدم الوقوع . انتهى – وهو الحق كما حققه شيخنا العلامة أبو الطيب القنوجي حماه الله تعالى في ( الروضة الندية ) فإن شئت زيادة الاطلاع فارجع إليه ، والله سبحانه أعلم .

[ حكم المكوس وهل تقوم مقام الزكاة ؟ ]
( قوله : وإن المكوس حلال لمن أقطعها ، وأنها إذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة ، وإن لم يكن باسم الزكاة ولا رسمها ) .
أقول : في القاموس : مكس في البيع يمكس : إذا جئ مالا . والمكس النقص والظلم . ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية . أو درهم كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة .انتهى .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( لا يدخل صاحب مكس الجنة )) يعني العشار . فعلي هذا أن المكوس ما يؤخذ من التجار بغير وجه شرعي .
( قلت ) : إن هذا القول المجمل لم يصحح نقله عن الشيخ ابن تيميه ، غير أنه قد صرح فقهاؤنا رحمهم الله تعالى أنه لو أخذ السلطان من شخص أموالاً مصادرة ، ونوى أداء الزكاة إليه ، فعلى قول المشايخ المتأخرين يجوز .
قال العلامة ابن عابدين في رد المختار : والصحيح أنه لا يجوز ، وبه تفنى ، لأنه ليس للظالم ولاية أخذ الزكاة من الأموال الباطنة . ثم قال : وفي مختارات النوازل : السلطان الجائر إذا أخذ الخراج يجوز ، ولو أخذ الصدقات أو الجبايات أ, أخذ مالا مصادرة إن نوى الصدقة عند الدفع قيل : يجوز أيضاً ، وبه يفتى . وكذا إذا دفع إلى كل جائر بنية الصدقة ، لأنهم بما عليهم من التبعات صاروا فقراء والأحوط الإعادة ، انتهى .
وهذا موافق لما صححه في المبسوط ، وتبعه في الفتح فقد أختلف التصحيح والإفتاء في الأموال إذا نوى المتصدق بها على الجائر وعلمت ما هو الأحوط . قلت : وشمل ذلك ما يأخذه المكاس ، لأنه وإن كان في الأصل هو العاشر الذى ينصبه الإمام لكن اليوم لا ينصب لأخذ الصدقات ، بل لسلب أموال الناس ظلماً بدون حماية فلا تسقط الزكاة بأخذه ، كما صرح به في البزازية . فإذا نوى التصدق عليه كان على الخلاف المذكور ، انتهى ما في رد المختار باختصار .
وفي الحاوى للزاهدى نقلاً عن جمع التفارق : أنه ينوى الزكاة بما أخذه منه الظالم ظلماً ، وإن كان يأخذه الظالم على غير جهة الزكاة . ونقل أيضاً عن بعضهم : أن من أمتنع عن الزكاة فأخذها الإمام كرهاً ووضعها في أهله أجزأ ، لأن الإمام ولاية أخذ الصدقات فقام أخذه مقام دفع المالك . قال مجد الأئمة فيه إشكال ، لأن النية فيه شرط ولم توجد . انتهى .
فقد تبين أن هذه المسالة أيضاً خلافية ، فإذا ذهب إلى أختيار أحد القولين فيها الشيخ ابن تيميه فلا يعاب ، كما لا يخفى على من تضلع من المسائل الشرعية وأما ما نسب إليه أولاً أيضاً من جواز إقطاع المكوس ، فالظاهر أنه ليس بصحيح العزو إليه كما سيأتى أمثال ذلك نعم ، وجدت عبارة في فثاويه فلعلها هي المأخذ في عزو ما ذكر إليه مع أنها ليس فيها ما يصحح حمل ذلك عليه ، فلا بأس بذكرها وهب قوله .

فصــل
[ في المظالــم المشـتركـة ]
مثل المشتركين في قرية إذا طلب منهم شئ يؤخذ على اموالهم أو عدد رءوسهم أو عدد دوابهم ، كما يوضع على المتبايعين للثياب ونحوها بتأويل وجوب الجهاد بأموالهم وغيرها ، مع ما دخل في ذلك من الظلم . ومثل ما يطلبه الولاة أحياناً ، كعند قدوم سلطان ، أو حدث ولد له . ومثل المقاتلة الذين يسيرون حجاجاً أو تجاراً ، ومثل الذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن فيأخذون شيئاً ، فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال التى لا تجب شرعاً ، وأخذها ظلم عليهم – لزم العد فيها يطلب منهم ، وليس لبعضهم أن يظلم بعضاً فيما يطلب منهم ، بل أما أن يؤدي قسطه فيكون عادلاً ، وإما أن يؤدي زائداً على قسطه فيعين شركاء فيكون محسناً .
      وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك حتى يؤخذ ذلك من بقية الناس ، بأن يجعل قسطه ايضاً عليهم لوجوه ، منها : انه يفضى إلى أن الضعفاء الذين ليس لهم ناصر يؤخذ منهم جميع ذلك المال . ومنها أنه يعلم أن قسطه يوضع على غيره فكأنه قد أمر به . ومنها أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الاشتراك في ذلك . فعلى هذا إذا تغيب بعضهم أو امتنع من الأداء وأخذ من غيره حصته كان عليه أن يؤدي قدر نصيبه إلى من أدى عنه


– في أظهر قولي العلماء – ويعاقب على أدائه ( 1 ) كما يعاقب على سائر الحقوق الشرعية .
       وكذلك من خلص ماله من قطاع الطريق ، أو عسكر ظالم ، أو متول ظالم ، ولم يخلصه إلا بما أدى عنه فإنه يرجع بذلك عليه ، وهو محسن إليه بذلك ، وإن لم يكن مؤتمناً على ذلك ولا مكرهاً على الأداء عنه – وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ! ومن جعله في هذا متبرعاً ولم يعطه شيئاً فقد قابل الإحسان بالإساءة . والمسألة خلافية ، وما ذكرناه أعدل وأقرب للأدلة الشرعية . أنتهى مختصراً .

[ هل تنجـس المائعات بموت حيوان ]
( قوله : وإن المائعات لا تنجس بموت حيوان فيها كالفأرة ) –
أقول : اختلف الأئمة في مقدار الماء الذى إذا وقعت فيه نجاسة لا يتنجس إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة ، فعند الشافعي وأحمد في المشهور عنه : إذا بلغ قلتين لا يحمل خبثاً . وعند أبي حنيفة : يتنجس الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة وإن تغير أحد أوصافه ، إلا إذا كان جارياً أو غير جار لكنه كثير ، فإنه لا يندس إلا إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة فإنه ينجس .
وقدر الكثير عنده بالغدير العظيم الذى لا يتحرك طرفه بتحرك الطرف الآخر ، أو بما كان عشره أذرع في عشرة أذرع ، فيكون وجه الماء مائة ذراع . وعند مالك : الماء لا ينجس ولو كان قليلاً إلا إذا تغير أحد أوصافه . وهذا كله مبسوط في كتب المذاهب .
وأختلفوا أيضاً في أن النجاسة هل تزال بكل مائع طاهر ، أم بالماء خاصة فقالت الأئمة الثلاثة : لا تزال النجاسة إلا بالماء .
وقال إمامنا الأعظم أبو حنيفة رحمه الله تعالى : تزال بكل مائع مزيل غير الأدهان فإنها لا تزال بها النجاسة ، وأما الخل ونحوه فإنه تزال به النجاسة .
واختلفوا ايضاً في ان سائر المائعات كالخل ونحوه إذا وقعت فيه نجاسة هل ينجس مطلقاً ولو كان كثيراً ، أو لا ينجس الكثير كالماء الكثير ؟ فيه خلاف ، وهذا هو موضوع هذه المسألة ، ولنذكرك إن شاء الله تعالى أقوال العلماء في ذلك .
وحاصل قول الشيخ ابن تيميه فيما هنالك ، حتى يتضح الحالك ، ويبدو للسالك أنه قد سلك واضح المسالك . فقد قال المحقق الحصكفى الحنفى في الدر المختار : وحكم سائر المائعات كالماء في الأصح حتى ولو وقع بول في عصير عشر في عشر ، أى في حوض كبير لا يتحرك طرفه بتحرك الأخر المقدر بعشر في عشر ، لم يفسد ذلك العصير أى لم يظهر أثر النجاسة . ولو سال دم --------------------------------------
( 1 ) قوله (( على أدائه )) لعله (( على عدم أدائه )) أهـ . هامش الأصل .
رجله مع العصير لا ينجس . ويحل شربه ، لأنه جعل في حكم الماء عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد . انتهى بتوضيح من المحشى .
وقال في موضع آخر في باب المياه أيضاً ، ثم المختار : طهارة المتنجس بمجرد جريانه ، وكذا البئر وحوض الحمام . قال محشيه العلامة ابن عابدين بعد كلام كثير في تطهير ماء الحوض الصغير والأواني ، وأنه هل يطهر بمجرد خروج الماء منها أم لا ؟ والخلاف في ذلك ما نصه : وأخبرني شيخنا حفظه الله تعالى أن بعض أهل عصره في حلب أفتى بذلك ، أى بمطلق السيلان منها حتى في المائعات ، وإنهم أنكروا عليه ذلك ، وأقول مسألة العصير تشهد لما أفتى به ، وقد مر أن حكم المائعات كالماء في الأصح .
فالحاصل أن ذلك له شواهد كثيرة ، فمن أنكره وأدعى خلافه يحتاج إلى إثبات مدعاه بنقل صريح لا بمجرد أنه لو كان كذلك لذكروه في تطهير المائعات كالزيت ونحوه . على أنه في القهستاني أن المائع كالماء والدبس ( 1 ) وغيرهما طهارته إما بإجرائه مع نجسه ، وإما بالخلط مع الماء ، كما إذا جعل الدهن في الخابية ثم صب فيه ماء مثله ، وحرك ثم ترك حتى يعلو وثقب أسفلها حتى يخرج الماء ، هكذا يفعل ثلاثاً ، فإنه يطهر كما في الزاهدي أنتهى باختصار .
وفي فتاوى الشيخ ابن تيميه ما ملخصه :
مسائل في الزيت اليسير تقع فيه النجاسة ، مثل الفأرة ونحوها ، وماتت فيه هل ينجس أم لا ؟ وإذا قيل ينجس فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا ؟ وإذا قيل تجوز المكاثرة هل يلقى الطاهر على النجس أو بالعكس ، أو لا فرق ؟ وإذا لم تجز المكاثرة وقيل بنجاسته هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا ؟ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمطاثرة هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا ؟ .
الجواب – أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة فهل تنجس ؟ إن كانت كثيرة فوق القلتين ، أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقاً إلا بالتغيير ؟ .
أولاً ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين ؟ فيه عن أحمد ثلاث روايات : أحدها – أنها تنجس ولو مع الكثرة ، وهو قول الشافعي وغيره .
والثانية – أنها كالماء سواء كانت مائية أو غير مائية ، وهو قول طائفة من السلف والخلف كابن مسعود وابن عباس والزهري وابي ثور وغيرهم نقله المروزي عن ابي ثور . وحكي ذلك لأحمد ، فقال : إن أبا ثور شبهه بالماء ، ذكر ذلك الخلال في جامعة عن المروزي ، وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى : أن حكم المائعات عندهم حكم الماء ومذهبهم في المائعات معروف فيه إذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الأخر لم يتنجس كالماء عندهم .
وأما أبو ثور فإنه يقول بالقلتين كالشافعي . والقول أنها كالماء ، يذكر قولاً في مذهب مالك رحمه الله تعالى ، وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين . وروى عن ابن نافع من المالكية في الحباب التى بالشام للزيت تموت فيه الفأرة : أن ذلك لا يضر الزيت .
وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة ولم يتغير أوصافه وكان كثيراً : لم ينجس بخلاف موتها فيه . ففرق بين موتها فيه ووقوعها فيه .
ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر : أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة ، كما يقولون : إن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل . والثالثة – يفرق بين المائع المائي كخل الخمر وغير المائي كخل العنب ، فيلحق الأول بالماء دون الثاني .
وفي الجملة للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال : أحدها – أنها كالماء . والثاني أنها أولى بعدم التنجس من الماء لأنها طعام وإدام فإتلافها فيه فساد ، ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء ، أو مباينة لها من الماء . والثالث – أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور . وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع ، وذكرنا حجة من قال بالتنجس وأنهم احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه )) رواه أبو داود وغيره . وبينا ضعف هذا الحديث ، وطعن البخاري والترمذي وأبو حاتم الرازي والدار قطني وغيرهم فيه ، أنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري .
قال أبو داود في الفأرة تقع في السمن : حدثنا مسدد حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ميمونة : (( أن فأرة وقعت في سمن فأخبر النبي r فقال : ألقوها وما حولها وكلوا )) واما حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله r : (( إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه )) قال محمد بن إسماعيل : فيه خطأ ، والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة . وبتقدير صحة قوله (( إن كان مائعاً فلا تقربوه )) فإنما يدل على نجاسة القليل الذى وقعت فيه النجاسة كالسمن المسئول عنه ، فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق القلتين يقع فيه فأرة ، حتى يقال : إنه يفيد العموم ، إذ السمن الذي يكون عند أهل المدينة أو في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً ، فلو صح هذا اللفظ لم يدل إلا على نجاسة القليل .
فأما المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها نص لا صحيح ولا ضعيف ولا لإجماع ولا قياس صحيح . ومن ينجسه ظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع سرت فيه كله فنجسته .
وقد عرف بأن هذا لم يقل بطرده أحد من المسلمين ، فإن طرده يوجب نجاسة البحر . بل الذين قالوا هذا الأصل منهم من أستثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر ، ومنهم من أستثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه ومنهم من استثنى ما فوق القلتين ، وعلل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير ، وبعضهم يتعذر التطهير . وهذه العلل موجودة في كثير من الأذهان ، فإنه يكون في الحب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت . ولا يمكنهم صيانته عن الواقع ، فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جداً . ولهذا لم يرد في تنجيس الكثير أثر عن النبي r ، ولا عن الصحابة .
وأختلف قول الإمام أحمد في تنجس الكثير ، وأما القليل فإنه ظن صحة حديث معمر فأخذ به . وقد أطلع غيره على العلة القادحة فيه ، ولو أطلع عليها لم يقل به . وروى عن ابن عباس أنه سئل عن فأرة كانت في سمن ؟ قال : تؤخذ الفأرة وما حولها . قلت : يا مولانا إن أثرها في السمن كله ؟ فقال للسائل عضضن بهن ابيك ؟ إنما كان أثرها في السمن وهي حية وإنما ماتت حيث وجدت . وعن أبي حزن بن أبي السود الدؤلى قال : سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن فقال : إنما حرم من الميتة لحمها ودمها . قلت : فقول معمر (( فلا تقربوه )) متروك عند عامة السلف والخلف ، فإن جمهورهم يجزون الاستصباح به ، وكثير منهم يجوز بيعه أو تطهيره ، وهذا مخالف لقوله (( فلا تقربوه )) ثم ذكر مذهب مالك وغيره في الماء وأنه لا يندس عند مالك بوقوع النجاسة إذا لم يتغير . وذكر عن الغزالي أنه قال : وددت أن مذهب الشافعي في المياه كمذهب مالك – إلى أن قال – وفي الجملة هذا القول هو الصواب . وذلك أن الله تعالى حرم الخبائث التى هي الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ونحو ذلك ، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير اصلاً ، كما أن الخمر إذا أستهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شارباً للخمر ، إذا أستحالت بنفسها وصارت خلاً كانت طاهرة بالاتفاق .
وهذا على أصل من يقول : إن النجاسة إذا أستحالت طهرت ، وهذا قوى كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأهل الظاهر ، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد . فإن انقلاب النجاسة ملحاً ورماداً ونحو ذلك هو كانقلابها ماء ، فلا فرق بين أن يستحيل ملحاً أو رماداً أو ماءً أو هواءاً ونحو ذلك . وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة وغيرها من الطيبات والخبيثة قد أستهلكت واستحالت فيها ، فكيف يحرم الطيب الذى أبيح ؟ وإذا قيل : إنه خالطه الخبيث فحرم .
فالجواب عنه : أن بئر بضاعة لما ذكر له عليه الصلاة والسلام أنه يلقى فيه الحيض ولحوم الكلاب ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( الماء طهور ولا ينجسه شئ – وقال : إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )) .
وفي لفظ (( لم ينجسه شئ )) إلى أن قال : ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد ، وقال بهذا القول هو رواية عن أحمد يعني بعدم تنجس الماء القليل إذا لم يتغير ، قال في المائعات كذلك ، كما قاله الزهري وغيره .
فهؤلاء لا ينجسون شيئاً من املائعات إلا بالتغير ، كما ذكره البخاري لكن المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء ، وكذلك في المائعات إذا سويت به . أنتهى ملخصاً . وقد أطنب وفصل فمن أراد كمال الإطلاع على هذا المفضل ، فعليه الكتاب المفصل .
وفي شرح العيني لصحيح البخاري عند حديث : سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال r : (( ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم )) ما نصه : أن الجمهور ذهبوا إلى نجاسة المائع بوقوع النجاسة فيه ، وإذا كان جامداً يطرح ما حول النجس وشد قوم فجعلوا المائع كله كالماء . وسلك داود ابن على مسلكهم . أنتهى .
فقد تبين لك أن الشيخ ابن تيميه لم ينفرد بهذا القول لما سرد من أدلته النقلية والعقلية ، فافهم والله تعالى أعلم .

[ هل للجنب أن يصلى التطوع ليلاً قبل أن يغتسل ؟ ]
( قوله : وإن الجنب يصلى تطوعه بالليل ولا يؤخره إلى أن يغتسل قبل الفجر وإن كان بالبلد ) –
أقول : إن هذه المسألة لها نظائر مصححة عند كثير من الأئمة . وللمجتهد فيها مدار على قيامها بغيرها من المسائل الآتية ، وهو الذي يلوح من كلام الشيخ محيى الدين ابن عربي في الفتوحات ، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى فيما حكاه ابن رجب فلا تغفل .

[ شرط الواقف هل يعتبر أو لا ؟ ]
( قوله : وإن شرط الواقف غير معتبر ، بل لو وقف على الشافعية صرف إلى الحنفية إلى آخره ) –
أقول : إنهم في الحقيقة صرحوا أن شرط الواقف كنص الشارع ، يعني لا يخالف ، لكن صرحوا ايضاً بأنه قد يخالف في مسائل منها – كما في رد المختار للعلامة محمد أمين بن عابدين – أنه لو شرط الواقف أن يتصدق بفاضل الغلة على من يسأل في مسجد كذا فللقيم التصديق على سائل غير ذلك المسجد ، أو خارج المسجد ، أو على من لا يسأل : أنتهى .
ومثله في حاوى الزاهدى ، فليمكن قول الشيخ ابن تيميه من هذا القبيل أو اجتهاداً منه كما اجتهد في كثير من المسائل علماء المذاهب الأربعة ، ومن يتتبع يعرف ، فاعرف ذاك ، والله تعالى يتولى هدانا وهداك - .

[ اختيارات أخرى ذهب إليها ابن تيميه ]
( قوله : وأمثال ذلك ) –
أقول : لعله يعني بها المسائل التى ذكرها العلامة ابن رجب الحنبلي في ترجمته الطويلة .
فقد قال ابن العماد في الشذرات ما نصه : قال ابن رجب : كانت العلماء والصلحاء والجند والأمراء والتجار وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وعلمه وله مفردات ، أختار ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه .
القول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير ، قليلاً كان أو كثيراً .
القول بجواز المسح على النعلين والقدمين ، وكل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخرى ، فإنه يجوز المسح عليه مع القدمين واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة ، كالمسافر على البريد ونحوه ، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد ، ويتوقف مع إمكان النزاع وتيسره ، واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها .
واختار جواز التيمم بخشية فوات الوقت في حق المعذور ، كمن أخر الصلاة عمداً حتى تضايق وقتها .
وكذا من خشى فوات الجمعة والعيدين وهو محدث ، واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول في الحمام وتكرره انها تتيمم وتصلى .
واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره ، ولا لأقل الطهر بين الحيضين ، ولا لسن الياس ، وان ذلك إلى ما تعرفه مل امرأة من نفسها .
وأختار أن تارك الصلاة عمداً لا يجب عليه القضاء ولا يشرع له ، بل يكثر من النوافل .
 وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله ، كما هو مذهب الظاهرية .
وأختار القول بأن البكر لا تستبرئ وإن كانت كبيرة ، كما هو قول ابن عمر t واختاره البخاري . والقول بان من أكل في شهر رمضان معتقداً أنه ليل ، وكان نهاراً لا قضاء عليه ، كما هو الصحيح عن عمر t ، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم .
والقول بجواز المسابقة بلا محلل وإن أخرج المستبقان .
والقول باستبراء المختلعة بحيضة ، وكذلك الموطوءة بشبهة والمطلقة آخر ثلاث طلقات .
والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين . وجواز طواف الحائض ولا شئ عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهراً .
والقول بجواز بيع الأصل بالعصير كالزيتون بالزيت ، والسمسم بالشيرج متفاضلاً ، وجعل الزائد من الثمن في مقابلة الصنعة .
والقول بالتكفير في الحلف بالطلاق ، وهو من الأقوال المشهورة التى جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل ، وأن الثلاث بلفظة لا يقع إلا واحدة . وأن الطلاق المحرم لا يقع . وله في ذلك مؤلفات كثيرة لا تحصر ولا تنضبط أهـ .
وأنت تعلم أن كثيراً من ذلك هو قول لأحد المذاهب الربعة أو لداود الظاهري ، أو لأحد الصحابة الكرام ، أو أحد التابعين . وقد بينت البعض فيما سبق ، وسأبين الباقي إن شاء الله تعالى فيما سيلحق .
والحاصل – أن هذه الأقوال والاختبارات إما له فيها سلف ، أو أدلة بحسب الظاهر قويات فلا تغفل .

[ رأى ابن تيميه في الحسن والقبح ]
( قوله : ومن مسائل الأصول مسألة الحسن والقبح التزم كل ما يرد عليها
أقول : يا لله العجب ! من إجمال هذا النقل والتشنيع على هذا القول كما لا يخفى عدم حسنه عند ناقد بصير ، لأن هذه المسألة كما ستقف إن شاء الله تعالى على تفصيلها ، أختلف العلماء في تفريعها وتأصيلها . فعند الأشعرية هما شرعيان . وعند غالب الحنفية وكثير من أصحاب المذاهب وجمهور المعتزلة عقليان . فإذا خالف الشيخ ابن تيمية قول السادة الأشعرية ووافق قوله غير واحد من الحنفية أو الشافعية أو الحنبلية ، هل ينبغي أن يعد ذلك من الأقوال المطعونة والآراء المرذولة ، بحيث إذا سمع هذا التجهيل جاهل ، أو عالم عن الاختلاف غافل ، يظن أن الشيخ ابن تيمية قد تفرد بهذه المسألة ، وشذ عن أهل السنة النبوية ، ولم يعلم أنه قد أختلف فيها أيضاً من فحول الأئمة الماتريدية ، فاستمع الآن ما تنقله لك من كتب الاسلاف التى هي كفيلة بتبيان الخلاف .
قال العلامة صدر الشريعة الحنفى في التوضيح شرح التنقيح : هذه المسألة من أمهات مسائل الأصول ، ومهمات مباحث المعقول والمنقول ، ومع ذلك هي مبنية على مسائل الجبر والقدر التى زلت في بواديها أقوام الراسخين ، وضلت في مباديها أفهام المتفكرين ، وغرقت في بحارها عقول المتبحرين . وحقيقة الحق فيها – أعنى الحق بين الإفراط والتفريط – سر من أسرار الله تعالى التى لا يطلع إلا خواص عباده . وهأنذا بمعزل من ذلك ، لكن أوردت مع العجز عن درك الإدراك قدر ما وقفت عليه ، ووقفت لإيراده .
أعلم أن العلماء قد ذكروا أن الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان :
الأول : كون الشئ ملائماً للطبع ومنافراً له .
والثاني : كونه صفة كمال ، وكونه صفة نقصان .
والثالث : كون الشئ متعلق المدح عاجلاً والثواب آجلاً ، وكونه متعلق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً .
فالحسن والقبح بالمعنيين الأولين يثبتان بالعقل أتفاقاً ، أما بالمعني الثالث فقد أختلفوا فيه ، فعند الأشعري لا يثبتان بالعقل بل بالشرع فقط . فهذا بناء على أمرين :
أحدهما – أن الحسن والقبح ليسا لذات الفعل وليس للفعل صفة يحسن الفعل أو يقبح لأجلها عند الأشعري .
وثانيهما – أن فعل العبد ليس باختياره عنده ، فلا يوصف بالحسن والقبح ومع ذلك جوز كونه متعلق الثواب والعقاب بالشرع ، بناء على أن عنده لا يقبح من الله تعالى أن يثبت العبد أو يعاقبه على ما ليس باختياره ، لأن الحسن والقبح لا ينسبان إلى أفعال الله تعالى عنده .
فالحسن والقبح بالمعني الثالث يكونان عند الأشعري بمجرد كون الفعل مأموراً به ومنهياً عنه . فالحسن عنده ما أمر به والقبيح ما نهى عنه . وعند المعتزلة ما يحمد على فعله سواء يحمد عليه شرعاً أو عقلاً . والقبح ما يذم على فعله . ثم بعد ما أبطل دليل الأشعري بما يطول نقله قال : وعند بعض أصحابنا يعني الحنفية والمعتزلة حسن بعض أفعال العباد وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له ويعرفان عقلاً أيضاً ، لأن وجوب تصديق النبي r إن توقف على الشرع يلزم الدور ، وإن لم يتوقف على الشرع كان واجباً عقلاً فيكون حسناً عقلاً . وأيضاً وجوب تصديق النبي r موقوف على حرمة الكذب ، فهي إن ثبتت شرعاً يلزم الدور ، وإن ثبتت عقلاً يلزم قبحاً عقلاً .
ثم قال : ولما أثبتنا الحسن والقبح العقليين – وفي هذا القدر لا خلاف بيننا وبين المعتزلة – أردنا أن نذكر بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم ، وذلك في امرين :
أحدهما – أن العقل عندهم حاكم مطلقاً بالحسن والقبح على أن الله تعالى وعلى العباد . أما على الله تعالى فلأن الأصلح واجب على الله تعالى بالعقل ، فيكون تركه حراماً على الله تعالى . والحكم بالوجوب والحرمة يكون حكماً بالحسن والقبح ضرورة . وأما على العباد فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال عليهم ويبيحها ويحرمها من غير أن يحكم الله تعالى فيها بشئ من ذلك . وعندنا ، الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى ، وهو متعال عن أبي يحكم غيره ، وعن أن يجب عليه شئ ، وهو خالق أفعال العباد ، جاعل بعضها حسناً وبعضها قبيحاً وله في كل قضية كلية أو جزئية حكم معين ، وقضاء مبين ، وإحاطة بظواهره وبواطنها ، وقد وضع فيها ما وضع من خير أو شر ، ومن نفع أو ضر ، ومن حسن أو قبح .
وثانياً – أن العقل عندهم يوجب العلم بالحسن والقبح بطريق التوليد بأن يولد العقل العلم بالنتيجة عقب النظر الصحيح . وعندنا العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك ، إذ كثير مما حكم الله تعالى بحسنه أو قبحه لم يطلع العقل على شئ منه ، بل معرفته موقوفة على تبليغ الرسل ، لكن البعض منه قد أوقف الله تعالى العقل على انه غير مولد للعلم ، بل أجرى عادته بخلق بعضه من غير كسب ، وبعضه بعد الكسب . أى ترتيب العقل المقدمات المعلومة ترتيباً صحيحاً على ما مر أنه ليس لما قدرة إيجاد الموجودات ، وترتيب الموجودات ليس بإيجاده . أهـ . ملخصاً .
وكتب السعد في تلويحه على قوله (( وعندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى )) ما نصه : لا يقال هذا مذهب الأشاعرة بعينه ، لأنا نقول : الفرق هو أن الحسن والقبح عند الأشاعرة لا يعرفان إلا بعد كتاب ونبي وعلى هذا المذهب قد يعرفها العقل بخلق الله تعالى علماً ضرورياً بهما ، إما بلا كسب كحسن تصديق النبي وقبح الكذب الضار ، وإما مع كسب كالحسن والقبح المستفادين من النظر في الأدلة وترتيب المقدمات ، وقد لا يعرفان إلا بالنبي والكتاب كأكثر أحكام الشرع . أهـ . ملخصاً .
وقال التاج السبكي في جمع الجوامع : الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته وصفة الكمال والنقص – عقلي وبمعنى الذم عاجلاً والعقاب آجلاً – شرعي ، خلافاً للمعتزلة . قال شارحه ولي الدين أحمد الشهير بابي زرعه العراقي الشافعي : الحسن والقبح يطلق بثلاثة اعتبارات :
أحدها – ما يلائم الطبع وينافره ، كقولنا : إنقاذ الفريق حسن ، وإتهام البرئ قبيح .
الثاني – صفة الكمال والنقص ، كقولنا : العلم حسن والجهل قبيح وهو بهذين الاعتبارين عقلى بلا خلاف ، أى أن العقل يستقل بإدراكها من غير توقف على الشرع .
الثالث : ما يوجب المدح أو الذم الشرعي عاجلاً ، والثواب أو العقاب آجلاً وهو موضع الخلاف . والمعتزلة قالوا : هو عقلى أيضاً ، يستقل العقل بإدراكه . وهل أهل السنة : هو شرعي لا يعرف إلا بالشرع . أهـ .
ونقل العلامة السفاريني عند شرح قوله : [ رجـــز ]
وربنـــا يخلــق باختيــار                 من غيــر حاجــة ولا اضطــرار
لكنــه لا يخلــق الخلـق سدى              كما أتى في النــص فاتبــع الهــدى
ما نصه : قال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله تعالى روحه : ونشا من هذا الاختلاف نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسألة التحسين والتقبيح العقلي ، فأثبت ذلك المعتزلة والكرامية ، وغيرهم ، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، واهل الحديث وغيرهم t ، ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من اصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم . وأتفق الفريقان على أن الحسن والقبيح إذا فسر أيكون الفعل نافعاً للفاعل ملائماً له ، وكونه ضاراً للفاعل منافراً له أنه تمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا ، وليس كذلك ، بل جميع الأفعال التى أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم ، وجميع الأفعال التى نهى الله تعالى عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم .
والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له . والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل مفسدة له . والمعتزلة اثبتت الحسن في افعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله تعالى .
قال الشيخ : ومنازعوهم لما أعتقدوا ان لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم ، نفوا ذلك وقالوا : القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته ، وكل ما يقدر ممكناً من الأفعال فهو حسن ، إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول ، وأولئك – يعني المعتزلة – اثبتوا حسناً وقبحاً لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته . وعندهم لا يقوم بذاته ولا وصف ولا فعل ولا غير ذلك ، وغن كانوا قد يتناقضون . ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح ، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه من جنس ما يوجبون على العبد ، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته ، فلا يثبتون له مشيئه عامة ولا قدرة تامة . فلا يجعلونه على كل شئ قديراً ، ولا يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا يقرون بانه خالق كل شئ . ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه ، فإنه سبحانه قال : ] ومن يعلم من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً [ [ طه 112 ] أى لا يخال أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ، ولا يهضم من حسناته .
والحاصل – أن فعل الله تعالى وتقدس وأمره لا يكون لعلة في قول مرجوح – أختاره كثير من علمائنا وبعض المالكية والشافعية ، وقاله الظاهرية والأشعرية والجهمية .
والقول الثاني – أنها لعلة وحكمة ، أختاره الطوفي ، وهو مختار شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وابن قاضي الجبل وحكاه عن إجماع السلف وهو مذهب الشيعة والمعتزلة .
لكن المعتزلة تقول بوجوب الصلاح ، ولهم في الأصلح قولان . والمخالفون لهم يقولون بالتعليل لا على منهج المعتزلة . قال شيخ الإسلام : لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان ، والأكثرون على التعليل والحكمة ، وهل هي منفصلة عن الرب ولا تقوم به ، أو قائمة مع ثبوت الحكم المنفصل ، لهم فيه أيضاً قولان . وهل يتسلسل الحكم أولا بتسلسل ، أو يتسلسل في المستقبل دون الماضي ؟ فيه أقول .
قال : احتج المثبتون للحكمة والعلة بقوله تعالى : ] من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل [ [ المائدة 32 ] وقوله تعالى : ] كي لا يكون دولة [ [ الحشر 7 ] وقوله سبحانه : ] وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم [ [ البقرة 143 ] ونظائرها ، ولأنه تعالى حكيم شرع الأحكام لحكمة ومصلحة ، لقوله تعالى : ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ [ الأنبياء : 107 ] والإجماع واقع على اشتمال الأفعال على الحكم والمصالح ، جوازاً عند أهل السنة ، ووجوباً عند المعتزلة ، فيفعل ما يريد بحكمته .
وتقدم أن النافين للحكمة والعلة احتجوا بما أحتجوا به انه يلزم من قدم العلة قدم المعلول وهو محال ، ومن حدوثها افتقارها إلى علة أخرى ، وأنه يلزم التسلسل .
قال الإمام الرازي . وهو مراد المشايخ بقولهم : كل شئ صنعه ولا علة لصنعه . وما أجاب به من قال بالحكمة ، وانها قديمة لا يلزم من قدم العلة قدم معلولها ، كالإدارة فإنها قديمة ومتعلقها حادث .
والحاصل – أن شيخ الإسلام وجمعاً من تلامذته أثبتوا الحكمة والعلة أفعال الباري سبحانه واقاموا على ذلك من البراهين ما لعله لا يبقى في مخيلة الفطين ، السالم من ربقة تقليد الأساطين – أدنى اختلاج وأقل تخمين ، منها قوله تعالى : ] أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ [ القيامة 36 ] وقوله تعالى ] أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً [ [ المؤمنون 115 ] وغير ذلك .
واما الإمام شمس الدين ابن القيم قد أجلب وأجنب ، واتى بما يقضى منه العجب ، في كتابه (( شرح منازل السائرين )) و (( مفتاح دار السعادة )) وغيرهما فمن أراد تنمية البحث والأدلة فليرجع إليهما ، وإلى شرح عقيدة السفاريني عليه الرحمة . وقال أيضاً عند شرح قوله : [ رجز ]
فكـــل ما منـه تعالى يحمـل                    لأنه عن فعلــه لا يسئــل
ما بعضـه : مذهب الأشاعرة أن أفعال البارى تعالى ليست معللة بالأغراض والمصالح ، ويقولون : إنه سبحانه يفعل هذه الحوادث عند الأسباب ، واللام للعاقبة لا للتعليل . ومذهب الماتريدية : امتناع خلو فعله عن المصلحة ، كما قال السعد .
والحق أن تعليل بعض الأفعال لا سيما الأحكام الشرعية بالحكم والمصالح ظاهر ، وأنه مذهب سلف الأمة . والقول الوسط كما حكاه الشيخ في (( شرح الأصبهانية )) لأنه تعالى خلق كل شئ ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ويثبتون لله تعالى حكمة يفعل لأجلها قائمة به عز وجل . أهـ .
وقال بعض الأشاعرة : إنهم يقولون بالحكمة والمصلحة في نفس الآمر لأنهم يمنعون العبث في افعاله سبحانه ، كما يمنعون الغرض ، ولذلك كان التعبدي من الأحكام ما لا يطلع على حكمته لا مالا حكمه له ، على أن بعضهم نقل عن الأشاعرة أنهم إنما يمنعون وجوب التعليل لا أنهم يحيلونه ، كما صرح به ابن عقيل الحنبلى ، واستغربه بعض الأشاعرة ، أهـ . وقال أيضاً عند شرح قوله : [ رجــز ]
فلــم يحـب عليه فعل الأصلــح                   ولا الصــلاح ويح من لم يفلـح
خلافاً للمعتزلة . فمعتزلة البصرة قالوا بوجوب الأصلح في الدين ، وقالوا تركه بخل ويفه يجب تنزيه البارى تعالى عنه ، ومنهم الجبائي . وذهب معتزلة بغداد إلى وجوب الصلح في الدين والدنيا معاً ، لكن بمعنى الأوفق في الحكمة والتدبير . وهذه المسألة مترجمة في كتب القوم بمسألة وجوب الصلاح والأصلح أنتهى .
قلت : والكلام فيها مبسوط في محله . وقصة الأشعري مع الجبائي المتقدمة لك في ترجمته قاضية بحقية مذهب أهل السنة ثم قال :
تنبيه – مذهب القول بالصلاح والأصلح مبني فيما قاله متكلموا الأشاعرة وغيرهم على قاعدتين :
إحداهما – تحسين العقل وتقبيحه في الأحكام الشرعية .
الثانية – استلزام الأمر للإدارة ، فإن قلت : قد أسلفت أن أسلافك مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم وغيرهما لهم الميل الاستدلال لإثبات التعليل والحكمة في الخلق والأمر ، وذلك من اصول القول بالصلاح والأصلح . ثم هنا أبطلت هذا القول ، وذكرت من لوازمه ما لا جواب عنه فما تصنع في هذه اللوازم التى ألزمت بها المعتزلة وما الجواب عنها إذا وجهت إليكم؟.
قلت : لا ريب ، إنما نثبت لله وما أثبته لنفسه ، وشهدت به الفطرة والعقول من الحكمة في خلقه وأمره ، فكل ما خلقه وامر به فله فيه حكمه بالغة . وآية ظاهرة لأجلها خلقه وأمر به . لكن نقول : إن الله تعالى في خلقه كالفرق بين الفعلين ، وكالفرق بين الوصفين والذاتين ، فليس كمثله شئ في وصفه ولا في فعله ولا في حكمه مطلوبة له .
بل الفرق بين الخالق والمخلوق في ذلك كله أعظم فرق وابينه وأوضحه عند العقول والفطر ، وعلى هذا فجميع ما ألزمت به الفرق القائلة بالصلاح والأصلح ، بل واضعاف ما ذكر من الإلزاميات فيه حكمة يختص بها لا يشاركه فيها غيره ، ولأجلها حسن منه ذلك ، وقبح من المخلوقين لانتفاء تلك الحكمة في حقهم . وهذا كما يحسن منه تعالى مدح نفسه والثناء عليها ، وإن قبح من اكثر خلقه ذلك . ويليق بجلالة الكبرياء والعظمة ، ويقبح من خلقه تعاطيها كما روى عنه r أنه حكى عن الله تعالى أنه قال : (( الكبرياء إزارى والعظمة ردائى ، فمن نازعني واحداً منها عذبته )) وكما يحسن منه إماتة خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بانواع المحن ، ويقبح ذلك من خلقه .
وهذا أكثر من أن تذكر أمثلته ، فليس بين الله تعالى وبين خلقه جامع يوجب أن يحسن منه ما حسن منهم ، ويقبح منه ما قبح منهم ، وإنما تتوجه تلك الإلزامات على من قاس أفعال الله تعالى بأفعال العباد ، دون من أثبت له حكمه يختص بها لا تشبه ما للمخلوقين من الحكمة ، فهو عن تلك الإلزامات بمعزل ، ومنزلة منها أبعد منزل .
ونكتة الفرق أن بطلان الصلاح والأصلح لا يستلزم بطلان الحكمة والتعليل كما أن التعليل الذى نثبته غير الذى تثبته المعتزلة كما مر ، فإن المعتزلة أثبتوا لله شريعة عقلية ، وأوجبوا عليه فيها وحرموا بمقتضى عقولهم . فالمعتزلة يوجبون على اله تعالى ويحرمون بالقياس على عباده ، ولا ريب أن هذا من أفسد القياس وأبطله كما نبه عليه وبينه الإمام المحقق ابن القيم في كتابه : ( مفتاح دار السعادة ) . وأما زعم المعتزلة استلزام الآمر للإرادة فباطل لا يعول عليه وبالله تعالى التوفيق . أهـ .
فإذا أحطت خبراً بما تقرر علمت أن في المسألة أقوالاً ، وأن العلماء قد كثر بينهم لذلك القيل والقال . فخذ ما طابق الكتاب وأترك الجدال .

تتمـــة
[ أفعال العبــاد ]
مسألة أفعال العباد من أعظم المسائل الدينية . والمذاهب الشهيرة ثلاثة : فمذهب المعتزلة – أن الإنسان خالق لأفعاله ، سواء كانت خيراً أم شراً ، وسموا لذلك بالقدرية ، وهم لقبوا أنفسهم بالعدلية لذلك ، ثم أقترفوا فرقتين ، فالأولى تنكر سبق علم الله تعالى بالأشياء قبل وجودها ، وقد أنقرضت هذه .
الثانية – كما قال الحافظ ابن حجر في فتح البارى – إنهم مطبقون على أنه سبحانه عالم بأفعال العباد قبل وقوعها ، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأنها مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال . والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فراراً من تعلق القديم بالحادث . وذهبت الجبرية أنه لا فعل للعبد أصلاً ، وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة له عليها ، ولا قصد ولا اختيار . فالمعتزلة على ما قال غير واحد من أهل السنة : ضاهت المجوس . والجبرية شابهت المشركين الذين قالوا : ] لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ [ [ الأنعام 148 ] . وذهب السلف الصالح ، وكثير من الأشاعرة وغيرهم إلى أن أفعالنا مخلوقة لله سبحانه وتعالى ، لكنها كسب لنا كما قال الفهامة الشيخ محمد السفاريني الشامي الحنبلي في منظومته :                                          [ رجــــز ]
أفعالنا مخلوقة لله
وكل ما يفعله العباد
لربنا من غير ما أضطرار


لكنها كسب لنا يا لا هي
من طاعة وضدها مراد
منه لنا فافهم ولا تمارى

والكسب عند المتكلمين : ما وقع من الفاعل مقارناً لقدرة محدثة اختيار .
وقيل : هو ما خلقه الله تعالى في محل قدرة المكتسب على وفق إرادته في كسبه . وهذا هو المذهب الوسط ، والقول العارى عن الخطر والشطط ، إذ لا جبر ولا تفويض . إليه رجعوا كلام الأشعري ، وإليه أشار باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه بقوله للسائل عن القدر : أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين : لا جبر ولا تفويض . ولله تعالى در من قال :         [ وافــر ]
تنكـــب عن طريــق الجبر واحـذر                وقــوعك في مهــاوى الاعتـــزال
وســر وسطــاً طريقاً مستقيمـــاً                 كمــا ســار الإمــام أبو المعــالى
وما أعلى ما رواه الثقات عن الإمام الشافعي t لما سئل أيضاً عن القدر فقال :
وما شئت كان وإن لم أشأ
خلقت العباد على ما علمت
على ذا مننت وهذا خذلت
فمنهم شقى ومنهم سعيد


وما شئت إن لم تشا لم يكن
ففي العلم يجرى الفتى والمسن
وهذا أعنت وذا لم تعن
ومنهم قبيح ومنهم حسن

هذا والبحث طويل عريض . وإن أجببت زيادة الاطلاع فعليك برسائل الشيخ إبراهيم الكوراني ، وشرح الأصفهانية ، ونزهة والدنا وتفسيره روح المعاني ، وتفسير الإمام الرازى ، وغير ذلك من كتب الكلام ، والله سبحانه اعلام بما جرت به الأقلام .

[ حكم مخالف الإجماع ]
( قوله : وإن مخالف الإجماع لا يكفر ولا يفسق ) .
أقول : الصحيح أن مخالف الإجماع لا يكفر . فقد قال أبو زرعة في شرح جمع الجوامع نقلاً عن الرافعي أنه قال : كيف نكفر من خالف الإجماع ، ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه . أهـ . وقال العلامة السيد محمد أمين الشامي في حاشيته في باب المرتد : والحق أن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الخمس ، وقد لا يصحبها فالأول – يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع . أهـ .
ثم نقل في نور العين عن رسالة الفاضل الشهير حسام جلبي من عظماء علماء السلطان سليم بن بايزيدخان ما نصه : إذا لم تكن الآية أو الخبر المتواتر قطعي الدلالة ، أو لم يكن الخبر متواتراً ، أو كان قطعياً لكن فيه شبهة ، او لم يكن الإجماع إجماع الجميع ، أو كان ولم يكن إجماع الصحابة ، أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة ، أو كان إجماع جميع الصحابة ولم يكن قطعياً ، بأن لم يثبت بطريق التواتر ، أو كان قطعياً لكن كان إجماعاً سكونياً – ففى كل من هذه الصور لا يكون الجحود كفراً ، يظهر ذلك لمن نظر في كتب الأصول . فاحفظ هذا الأصل فإنه ينفعك في استخراج فروعه حتى تعرف منه صحة ما قيل : إنه يلزم الكفر في موضع كذا ، ولا يلزم في موضع آخر . أهـ .
وقال الشيخ محيى الدين ( في الباب الثامن والثمانين من الفتوحات ) والإجماع إجماع الصحابة t بعد رسول الله r . وما عدا عصرهم فليس بإجماع يحكم به . وصورة الإجماع : أن يعلم أن المسألة بلغت لكل واحد من الصحابة فقال فيها بذلك الحكم الذى قال به الآخر ، إذ لم يبق منهم أحد إلا وقد وصل إليه ذلك الأمر ، وقد قال فيه بذلك الحكم . فإن نقل عن واحد منهم خلاف في شئ وجب رد الحكم فيه إلى الكتاب والخبر النبوي ، فإنه خير وأحسن تأويلاً .
ولا يجوز أن يدان الله تعالى بالرأى ، وهو القول بغير حجة ولا برهان ، لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع . وإن كنا لا نقول بالقياس فلا نخطئ مثبته إذا كانت العلة الجامعة معقولة جلية ، يغلب على الظن أنها مقصودة للشارع ، وغنما منعنا نحن الأخذ بالقياس لأنه زيادة في الحكم ، وفهمنا من الشارع أنه يريد التخفيف عن هذه الأمة ، وكان يقول : (( أتركوني ما تركتكم )) أهـ .
وقد أجمل الشيخ ابن حجر عفا الله تعالى عنه هذا القول ولم يعزه أيضاً إلى محله . وقد أطنب الأصوليين في بحث مخالفة الإجماع وتقسيمه ، فإن أردت التفصيل فعليك بكتبهم . وأما حجية الإجماع فقد قال بها الشيخ ابن تيمية ، ففى فتاواه ما نصه :
( مسألة في إجماع العلماء – هل يجوز للمجتهد خلافه وما معناه ؟
أجاب : معنى الإجماع أن يجمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام ، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم . فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولكن كثيراً من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعاً ولا يكون الأمر  كذلك ، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة . وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماعاً باتفاق المسلمين .
بل قد ثبت عنهم رضي الله تعالى أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروا إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم .
ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب والسنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك ، مثل مسافة القصر فإن تحديدها بثلاثة أيام وستة عشر فرسخاً لما كان قولاً ضعيفاً كان طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم يرى قصر الصلاة في السفر الذى دون ذلك ، كالسفر من مكة إلى عرفة ، فإنه قد ثبت أن أهل مكة قصروا مع النبي r بمنى وعرفه .
وكذلك طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد قالوا : إن جمع الطلاق الثلاث واحدة ، لأن الكتاب والسنة عندهم إنما يدل على ذلك ، وخالفوا أئمتهم . وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة رأوا غسل الدهن النجس ، وهو خلاف قول الأئمة الأربعة . وطائفة من أصحاب أبي حنيفة رأوا تحليف الناس بالطلاق ، وهو خلاف قول الأئمة الأربعة ، بل ذكر ابن عبد البر أن الإجماع منعقد على خلافه . وطائفة من أصحاب مالك وغيرهم قالوا: من حلف بالطلاق فإنه يكفر يمينه ، وكذلك من حلف بالعتاق .
وكذلك قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أن من قال : الطلاق يلزمني لا يقع به طلاق ، ومن حلف بذلك لا يقع به طلاق . وهذا منقول عن أبي حنيفة نفسه . أهـ . باقتصار .
قلت : ومن ذلك الأقوال الزفرية ( 1 ) التى نقلتها الأئمة الحنفية ، فإن التقوى فيها على قول زفرة لقوة أدلته ، ولم يلتفت فيها على قولهم . وأشباه ذلك كثير لمن تتبع أقوال علماء المذاهب الأربعة . أهـ . فتدبر وافهم .




-------------------------
( 1 ) نسبة إلى زفر بن الهزيل الإمام المعروف ، وهو أحد اصحاب ابي حنيفة النعمان .


[ عقيدة ابن تيميه في كلام الله ]
       ( قوله : وإن ربنا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً – محل الحوادث ، تعالى الله عن ذلك وتقدس – إلى قوله – وغن القرآن محدث في ذات الله تعالى .
أقول : عني بذلك مسألة الكلام على ما ذهبت متكلم بكلام ازلي بحروف وأصوات . وهذا التشنيع أيضاً قد اتبع فيه السبكي كما تقدم لك في منظومته حيث قال : [ بسيـــط ]
يحاول الحشو أنى كان فهو له
يرى حوادث لا مبدأ لأولها
وجواب اليافعي له بقوله :
وقد تكلم رب العرش بالكتب
ولم يزل فاعلاً أو قائلاً أزلاً


حثيث سير بشرق أو بمغربه
في الله سبحانه عما يظن به

المنزلات كلاماً لا شبيه به
إذا يشاء وهذا الحق فارفض به

الأبيات السالفات : وانت تعلم أن عدم قيام الحوادث بذاته تعالى مما أتفق عليه أهل السنة ( 1 ) إلا الكرامية ، فقد قال السعد في شرح المواقف : إنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث .
ولا بد قبل الشروع في الحجاج من تحرير محل النزاع ، ليكون التوارد بالنفي والإثبات على شئ واحد فنقول :
الحادث هو الموجود بعد العدم ، وأما مالا وجود له وتجدد ، ويقال له متجدد ، ولا يقال له حادث فثلاثة أقسام : الأول – الأحوال ولم يجوز تجددها في ذاته تعالى إلا أبو الحسن من المعتزلة فإنه قال : بتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات .
الثاني – الإضافات أى النسب ، ويجوز تجددها اتفاقاً من العقلاء حتى يقال : كأنه تعالى موجود مع العلم بعد أن لم يكن معه .
الثالث – السلوب ، فما نسب إلى ما يستحيل إنصاف البارئ تعالى به امتنع تجدده ، كما في قولنا : إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض . فإن هذه سلوب يمتنع تجددها وإلا جاز ، فإنه تعالى موجود مع كل حادث ، وتزول عنه هذه المعية إذا عدم الحادث ، فقد تجدد له صفة سلب بعد ان لم تكن .
وإذا عرفت هذا الذى ذكرناه فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث ، أى الأمور الموجودة بعد عدمها ، فمنعه الجمهور من العقلاء من أرباب الملل وغيرهم . وقال المجوس : كل حادث هو من صفات الكمال قائم به ، أى يجوز أن تقوم به الصفات الكمالية الحادثة مطلقاً . وقال الكرامية :
----------------------
( 1 ) على هامش الأصل ؟ (( ولعل الصواب أخذاً مما يأتى : أهل السنة وغيرهم إلا الكرامية والمجوس . فلعل السقط من الناسخ )) أهـ .
يجوز أن يقوم به الحادث لا مطلقاً ، بل كل حادث يحتاج البارئ إليه في إيجاده للخلق ، ثم اختلفوا في ذلك الحادث فقيل : هو الإدارة ، وقيل هو قوله : كن . واتفقوا على أن الحادث القائم بذاته يسعى حادثاً ، ومالاً يقوم بذاته من الحوادث يسمى محدثاً لا حادثاً . ولهم في إثبات امتناع بذاته لجاز أزلاً واللازم سبحانه ثلاثة وجوه : الأول – لو جاز قيام الحادث بذاته لجاز أزلاً واللازم باطل.
الثاني – صفاته تعالى صفات كمال ، فخلوه عنها نقص ، والنقص عليه محال إجماعاً ، فلا يكون شئ من صفاته حادثاً وإلا كان خالياً عنه قبل حدوثه .
الثالث : أنه تعالى لا يتأثر عن غيره ، ولو قام به حادث لكانت ذاته متأثرة عن الغير متغيرة به ، وأوردا عليها ما يطول ذكره ، فإن أردته فارجع إليه .
ثم قال : واحتج الخصم بوجوه ثلاثة : منها الاتفاق على انه متكلم سميع بصير ، ولا يتصور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر ، وهي حادثة فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته تعالى .
وأجابوا عنه بان الحادثة تعلقه ، وان ذلك التعليق إضافة من الإضافات فيجوز تجددها وتغيرها ، إذ الكلام عند الأشاعرة معنى نفسي قديم قائم بذاته تعالى لا يتوقف على وجود المخاطب بل يتوقف عليه تعلقه ، وكذا السمع والبصر .
وقالت الكرامية : العقلاء يوافقوننا في قيام الصفة الحادثة بذاته سبحانه وإن أنكرونا باللسان ، فإن الجبائية قالوا بإدارة وكراهية حادثتين لا في محل ، لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته تعالى ، وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر . وابو الحسين يثبت علوماً متجددة . والأشعرية يثبتون النسخ ، وهو إما رفع الحكم القائم بذاته أو انتهائه ، وهما عدم بعد الوجود فيكونان حادثين . أهـ . ملخصاً .
وإن أردت الأجوبة فعليك بالكتب المطولة . وأما ما ذكرنا من مسألة الكلام عند الحنابلة فهو مذهب المحدثين والسلف الصالحين ، وهو أحد تسعة أقوال على ما حماه العلامة الملا على القارى في شرحه الفقه الأمبر : أحدها – أن كلام الله تعالى هو ما يفيض على النفوس من المعاني ، إما من العقل الفعال ، وهو جبريل عند بعضهم ، أو من غيره ، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة .
وثانيهاً – أنه مخلوق خلقه الله تعالى منفصلاً عنه ، وهو قول المعتزلة .
وثالثهاًُ – أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى هو الأمر والنهي ، والخبر والاستخبار ، إن عبر بالعربية كان قرآناً ، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة ، وإليه ذهب ابن كلاب ومن وافقه كالأشعرية .
ورابعها – أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ، وإليه ذهبت طائفة من المتكلمة وأهل الحديث .
وخامسها – انه حروف وأصوات ، لكن تكلم الله تعالى بها بعد أن لم يكن متكلماً ، وإليه ذهبت الكرامية وعيرهم .
وسادسها – أنه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته ، وهو قول صاحب المعتبر وإليه ذهب الرازي في المطالب العالية .
وسابعها – أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته وهو ما خلقه في عيره ، وإليه ذهب أبو منصور الماتريدي .
وثامنها – أنه مشترك بين المعنى القائم بالذات وهو الكلام النفسي وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات ، وهو قول أبي المعالي ومن تبعه .
( قلت ) والأظهر أن معنى الأول حقيقة ، والثاني مجاز . 
وتاسعها – أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو متكلم به بصوت يسمع ، وغن نوع الكلام قديم وإن لم تكن صورة المعين قديماً ، وهو المأثور عن أئمة الحديث والسنة أهـ .
وانت تعلم أن هذه المسألة من أعظم مسائل الدين ، وقد تحيرت فيها آراء المتقدمين والمتأخرين ، وأضطربت فيها الأقوال ، وكثرت بسببها الأهوال ، وأثارت فتناً ، وجلبت محناً ، وكم سجنت إماماً ، ونكبت أقواماً وقد أرشد الله تعالى إليها اهل السنة والجماعة ، كما سياتيك بيانه إن شاء الله تعالى ، وما تستلذ سماعه .
( فأقول ) : إن المشهور من هذه المذاهب والمبسوطة أدلتها في اكثر الكتب أربعة : وهي مذهب الحنابلة القائلين بقدم الكلام اللفظي ، وإنه غير مخلوق . ومذهب الأشاعرة المثبتين للكلام النفسي وقدمه ، وعدم خلقه وعدم الكلام اللفظي . ومذهب الكرامية المثبتين للكلام اللفظي وحدوثه . ومذهب المعتزلة القائلين بخلق القرآن وحدوثه . ونفي الكلام النفسي . وستتضح لك إن شاء الله تعالى أقوالهم المجملة بادلتها المفصلة . فقد قال العلامة الملا جلال الدواني في شرحه للعقائد العضدية : ولا خلاف بين أهل الملة في كونها تعالى متكلماً ، أى موصوفاً بهذه الصفة : لكن اختلفوا في تحقيق كلامه ، هل هو نفسي أم لفظي ، وحدوثه وقدمه . وذلك أنهم لما رأوا قياسين متعارضين النتيجة وهما كلام الله تعالى مؤلف من حروف وأصوات مترتبة متعاقبة في الوجود ، وكل كا هو كذلك فهو حادث ، فكلام الله تعالى حادث – أضطروا إلى القدح في أحد القياسين ضرورة أمتناع حقيقة النقيضين ، فمنع كل طائفة بعض المقدمات . فالحنابلة ذهبوا إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ، ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف واصوات مترتبة فهو حادث ، بل قال بعضهم بقدم الجلد والغلاف .
( وأقول ) : وهذا غير مقبول عند محققى الحنابلة ، بل هو منكر منسوب إلي بعضهم ، وقد كثر قادحوه منهم كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ذلك . ثم قال : وقيل : إنهم إطلاق لفظ الحادث على الكلام النفسي ، كما قال بعض الأشاعرة : إن كلامه تعالى ليس قائماً بلسان أو قلب ، ولا حالاً في مصحف أو لوح ، ومنع إطلاق القول بحدوث كلامه ، وإن كان المراد هو اللفظي رعاية للأدب واحتراز الوهم إلى حدوث الكلام الأزلي .
والمعتزلة قالوا بحدوث كلامه ، وإنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره . ومعنى كونه متكلماً عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبي r ، أو غيرها كشجرة موسى u ، فهم منعوا ان المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى قديمة .
والكرامية لما رأوا أن مخالفة الضرورة التى ألتزمها الحنابلة أشنع من مخالفة الدليل ، أن ما التزمه المعتزلة من كون كلامه تعالى صفة لغيره ، وان معنى كونه متكلماً كونه خالقاً للكلام في الغير مخالف للعرف واللغة – ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له مؤلفة من احروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى ، فمنعوا أن كل ما هو صفة له فهو قديم .
والأشاعرة قالوا : كلامه تعالى معنى واحد بسيط ، قائم بذاته تعالى قديم فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات . ولا نزاع بين الشيخ والمعتزلة في حدوث الكلام اللفظي ، وإنما نزاعهم في إثبات الكلام النفسي وعدمه . وذهب المصنف إلى أن مذهب الشيخ – يعني الأشعري – أن الألفاظ أيضاً قديمة ، وأفرد في ذلك مقالة ذكر فيها ان لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ ، وأخرى على القائم بالغير .
فالشيخ لما قال : هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وهو القديم عنده ، واما العبارات فإنما سميت كلاماً مجازاً لدلالتها على ما هو الكلام الحقيقي ، حتى صرحوا بأن الألفاظ حداثة على مذهبه ولكنها ليست كلاماً له تعالى حقيقة .
وهذا الذى فهموه له لوازم كثيرة فاسدة ، كعدم تكفير من أنكر كلامية ما بين دفتى المصاحف ، مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة ، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه تعالى حقيقة ، إلى غير ذلك مما يخفى على المتفطنين في الأحكام الدينية ، فوجب حمل كلام الشيخ على انه أراد به المعنى الثاني ، فيكون الكلام النفسي عنده أمراً شاملاً للفظ والمعنى جميعاً قائماً بذاته تعالى . أهـ .
فقوله (( المعنى الثاني )) أى فوجب أن يحمل قوله : الكلام هو المعنى النفسي على أنه اراد بالمعنى المعنى الثاني وهو القائم بالغير ، لا ما فهمه الأصحاب من أن مراده به مدلول اللفظ فيكون المعنى النفسي عند الشيخ أمراً شاملاً للفظ القائم بذات الله تعالى ولمدلوله القائم به .
وقال الوالد عليه الرحمة في الفوائد التى حررها أول تفسيره : إن الذى انتهى إليه كلام أئمة الدين ، كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى u سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت ، كما تدل عليه النصوص التى بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل ، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل . أهـ .
ولنذكر هذه الفائدة بتمامها ، فإنها توقفك من مسالة الكلام على غوامضها ( فأقول ) : قال عليه الرحمة ما نصه : إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذى هو مصدر ، وكلام بمعنى التكلم به الذى هو الحاصل بالمصدر ، ولفظ الكلام لغة للثاني ، قليلاً كان أو كثيراً ، حقيقة كان أو حكماً وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكر الرضى . وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي .
فالأول من اللفظي ، فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج .
الثاني منه – كيفية في الصوت المحسوس . والأول من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذى لم يبرز إلى الجوارح . والثاني منه – كيفية في النفس إذ لا صوت محسوساً عادة فيها ، وإنما هو صوت معنوي مخيل .
أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق . اما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية ، وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية . ومعناه الثاني – هو هذه الكلمات الذهنية ، والألفاظ المخيلة المترتبة ترتيباً ذهنياً منطبقاً عليه الترتيب الخارجي والدليل على ان النفس كلاماً بالمعنيين الكتاب والسنة ، فمن الآيات قوله تعالى : ] فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكاناً [ [ يوسف 77 ] فإن (( قال )) بدل من (( أسر )) أو استئناف بياني ، كأنه قيل : فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار ؟ فقيل : قال أنتم شر مكاناً . وعلى التقديرين فالآية دالة على ان للنفس كلاماً بالمعنى المصدري ، قولاً بالمعنى الحاصل بالمصدر وذلك من (( أسر )) والجملة بعدها . وقوله تعالى : ] أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى [ [ الزخرف 80 ] وفسر النبي r السر بما اسره ابن آدم في نفسه . وقوله تعالى : ] واذكر ربك في نفسك [ [ الأعراف 25 ] وقوله تعالى : ] يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الآمر شئ ما قتلنا ههنا [ أي يقولون في انفسهم كما هو الأسرع أنسياقاً إلى الذهن . والآيات في ذلك كثيرة .
ومن الأحاديث ما رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله r وقد سأله رجل فقال : إنى لأحدث نفسي بالشئ لو تكلمت به لأحبطت أجرى ، فقال : (( لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن )) فسمى رسول الله r ذلك الشئ المحدث به كلاماً مع أنه كلمات ذهنية ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها .
وقوله تعالى في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ……. )) الحديث . وفيه دليل على أن للعبد كلاماً نفسياً بالمعنيين ، وللرب أيضاً كلاماً نفسياً كذلك ولكن أين التراب ، من رب الأرباب .
فالمعنى الأول للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التى هي بمنزلة الخرس بالتكلم الإنساني اللفظي ، ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلاً ، وهي واحدة بالذات تتعدد تعليقاتها بحسب تعدد المتكلم به .
وحاصل الحديث : من تعلق تكلمه بذكر اسمى ، تعلق تكلمي بذكر أسمه ، والتعليق من الأمور النسبية التى لا يضر تجددها ، وحدوث التعليق إنما يلزم في التعليق النتجيزي ولا ننكره ، وأما التعليق المعنوي التقديري وتعلقه فأزليان ، ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن اشياء (( رحمة غير نسيان )) كما في الحديث ، إذا معناه أن تكلمه الزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقيق أتصافه أزلاً بالتكلم النفسي ، وعدم هذا التعليق الخاص لا يستدعى انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى . والمعنى الثاني – له تعالى كلمات غيبية ، وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقاً ، نسبية كانت أو خيالية أو روحانية ، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان ، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ، ويقربه من بعض الوجوه وقع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مترتبة في الوضع الكتابي دفعه ، فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها ، فجميع معلومات الله الذى هو نور السماوات والأرض مكشوفة له ازلاً . كما هي مكشوفة له فيما لا يزال . ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة وضعياً أزلياً يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال ، والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى ، فهو كلمات غيبية مجردة من المواد ، مترتبة في علمه أزلاً غير متعاقبة تحقيقاً بل تقديره عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية .
ومعنى تنزيلها : إظهار صورها في المواد الروحانية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة . ومن هنا قال السنيون : القرآن كلام الله غير مخلوق ، وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور ، مقروء بالألسن ، مسموع بالآذان ، غير حال في شئ منها ، وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة . فقولهم : (( غير حال )) إشارة إلى مرتبة النفسية الأزلية ، فإنه من الشئون الزاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبداً ، ولكن الله أظهر صورها من الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة ، وملفوظة مسموعة ، ومكتوبة مرئية ، فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس ( 1 ) فالقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، وإن تنزل في هذه المراتب الحادثه ولم يخرج عن كونه منسوباً إليه .
أما في مرتبة الخيال فلقوله r : (( أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله في جوفه )) واما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى : ] وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن [ [ الأحقاف 21 ] واما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى : ] بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ [ البروج 22 ] وقول الإمام أحمد : لم يزل الله متكلماً كيف يشاء ، وإذا شاء بلا كيف ، إشارة إلى مرتبتين :
الأولى – إلى كلامه في مرتبة التجلى والتنزيل إلى مظهر له ، كقوله r : (( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة اجنحتها خضعاناً لقوله كانه سلسلة على صفوان )) الحديث .
والثاني – إلى مرتبة الكلام النفسي ، إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات ، والكلام في مرتبة الذات مجرد عن المادة فارتفع الكيف بارتفاعها .
فالحاصل – لم يزل الله متكلماً موصوفاً بالكلام من حيث تجلي ، ومن حيث لا ، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلماً بلا كيف كما كان ولم يزل .
والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلاً : بأن الله تعالى كلاماً بمعنى التكلم ، وكلاماً بمعنى التكلم به ، وإنه بالمعنى الثاني لم يزل منصفاً بكونه أمراً ونهياً وخبراً ، فإنها أقسام المتكلم به ، وغن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حرفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق ، غير أنها في الحق كلمات ، غيبية مجردة عن المواد أصلاً ، غذ كان الله تعالى ولم يكن شئ غيره . وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية ، فهي في مادة خيالية ، فكلمات الكلام النفسي في جنابة كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمية ، ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمات حقيقة ، إذ أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة في خبر يوم السقيفة .
والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالأجزاء كلمات حقيقة لغوية ، مع أنها ليست ألفاظاً كذلك ، إذ ليست حروفها عارضة لصوت . واللفظ الحقيقى ما كانت حروفه عارضة ، وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه ، وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا أنفكاك ، فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه ، فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع
---------------------------
( 1 ) قوله ، (( وليس فليس )) أي ليس انفصال فليس حلول .
اللفظ والمعنى كما فسره هو ايضاً . وذلك في قوله على النفسي ، وفي قول الجمهور على الحقيقى . ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده ، لأن اللفظ الحقيقى لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه ، ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد : ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول ، اى المقول الذى يدور في الخلد ، وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك .
نعم ، عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود ، وله مقاله مفردة في ذلك ، ومحصولها كما قال السيد قدس سره : أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ . وأخرى على الأمر القائم بالغير . فالشيخ لما قال : الكلام النفسي هو المعنى النفسي ، فهم الأصحاب منه أن مرداده مدلول اللفظ وحده ، وهو القديم عنده . وأما العبارات فإنها تسمى كلاماً مجازاً لدلالتها على ما هو كلام حقيقي ، حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضاً ، لكنها ليست كلامه حقيقة .
وهذا الذى فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة ، كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتى المصحف مع انه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله حقيقة ، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي ، وكعدم كون المقروء والمحفوظ حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية .
فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني ، فيكون الكلام النفسي عنده أمراً شاملاً للفظ والمعنى جميعاً قائماً بذات الله تعالى ، وهو مكتوب في المصاحف ، مقروء بالألسن ، محفوظ في الصدور ، وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة . وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه . ان ذلك الترتيب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعاً بين الأدلة . وهذا الرأى ذكرناه وإن كان مخالفاً لما عليه متأخروا اصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيقته . أهـ .
واعترضه الدواني بوجوه قال :
أما أولاً – فلأن مذهب الشيخ إن كلامه تعالى واحد وليس بامر ولا نهي ولا خبر ، وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق . وهذه الأوصاف ما تنطبق على الكلام اللفظي ، وإنما يصح تطبيقه على المعني المقابل للفظ بضرب من التكلف .
واما ثانياً – فلآن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضى إلى كون الأصوات مع كونها أعراضاً سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة ، وهو سفسطة من قبيل أن يقال : الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها .
وأما ثالثاً – فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارئ من الألفاظ ، وبين ما يقوم بذاته تعالى اجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة . فنقول : هذا الفرق إ أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ ، وغن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارئ وما يقوم بذاته تعالى بسبب حقيقة واحدة ، والتفاوت بينهما و إنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقة مجانساً لصفات المخلوقات .
وأما رابعاً – فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم ، فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته ، ولا يجوز تكفيره اصلاً ، وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه .
وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله حقيقة ، وإنما هو بمعنى كونه دالاً على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى ، وكيق يدعى أنه من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب ؟ وكيف بزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم ! حاشاهم عن ذلك ! .
واما خامساً – فلأن الأدلة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ ، كيف وبعضها مما لا يتعلق بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقى تلاوته ! . أ هـ .
والجواب أما عن الأول – فهو أن الحق عز أسمه له كلام بمعنى التكلم ، وكلام بمعنى المتكلم له ، وما هو أمر واحد المعنى الأول ، وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وانها ليست من جنس الحروف والألفاظ لا الحقيقة ولا الحكمية ، وما ذكر في الأعتراض ينطبق عليه بلا كلفة .
والدليل على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفاً بكونه أمراً نهياً خبراً . ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به ، وكل ما كان قائلاً بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتاً ، والتعدد تعلقاً ، المعنى الأول عنده جمعاً بين الكلامين .
واما عن الثاني – فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود ، لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مرتبة كما ذكره هو نفسه .
وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم ، فليحمل عليه سعياً بالإصلاح مهما أمكن .
وأما الثالث – فهو أن الإيراد مبني على ظن أن المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيه بالقائم بنفس الحافظ .
واما  الرابع – فهو أن الكلام النفسي عند اهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجرداً عن اللفظ مطلقاً ، ودق سمعهم يقولون : إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازاً ، فإذا أنضم قولهم بنفي كونه حقيقة شرعية إلى أقوالهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ ، لزم من هذا ما هو في معنى القول بكون اللفظي من مخترعات البشر ، ولا يخفى استلزامه للمفاسد ، ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي ، فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتراً فلا يتأتى نفيه لأحد . بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به يقتضيه حقيقة الكلام ، وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل . وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ، ولا شك أنه ليس قائماً بذاته تعالى من حيث هو هو ، بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ، ومظهر من مظاهر تنزلاته ، فهو دال على الحقيقى القائم فسمى كلاماً حقيقة شرعية لذلك . وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازاً من هذا الوجه ، وإلى هذا يشير كلام التفتارانى فلا يلزم شئ من المفاسد ، واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه .
واما الخامس – فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصاً في أن الضمير راجع إلى التلفظ ، بل يحتمل أن يكون راجعاً إلىلا الملفوظ ، وذلك أنه قال : المعنى الذى في النفس لا ترتب فيه ، كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه ، وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ والمعنى ، كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ، ولا شك أنه لا ترتب فيه ، أى لا تعاقب فيه في الوجود العلمي ، وحينئذ فقوله نعم الترتب إنما يحصل في التلفظ ، معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذى هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة . فقوله : وهو الذى هو حادث ، أى الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذى هو الصورة حادث ، لا اللفظ النفسي ، وتحمل الأدلة التى تدل على الحدوث وعلى حدوثه ، أى الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلاً . ومنهم من أعترض ايضاً بانهم اشترطوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى ، أو ما يقوم مقامه ، كالنزول ، فلا يكون القرآن اللفظي الذى هو معجزة قديماً صفة له تعالى . ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية . فكونه لفظاً حقيقياً عربياً مجعول بالنص فيكون معجزة بلا شبهة ، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذى هو مجموع اللفظ النفسي والمعني . وهذا واضح لمن ساعدته العناية .
وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم واتحدت أغراضهم ، واختلفت أساليبهم . وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها ، غير هياب ولا وكل ، وإن اتسع علم أهلها . فالبعوضة قد تدمى مقلة الأسد ، وفضل الله تعالى ليس مقصوراً على أحد .
( فأقول ) : قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الإيجى ما حاصله : إن هذا الذى تدعيه الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل ، فإنا إذا قلنا : زيد قائماً ، فهناك أربعة اشياء : الأول – العبارة الصادر عنه .
والثاني – مدلول هذه العبارة ، وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها .
الثالث – علمه – علمه تلك النسبة وانتفائها .
الرابع – ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع ، والأخيران ليسا كلاماً اتفاقاً ، والأول يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم ، فبقى الثاني ، وكذا تقول في الأمر والنهي ههنا ثلاثة أمور : الأول – الإرادة والكراهة الحقيقية .
الثاني – اللفظ الصادر عنه .
الثالث – مفهوم لفظه ومعناه . والأول ليس كلاماً اتفاقاً . والثاني كذلك على مذهبهم ، فبقى الثالث وبه صرح أكثر محققيهم . وكونه كلاماً نفسياً ثابتاً لله – تعالى شأنه – محكوماً عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه : الأول – أنه مخالف للعرف واللغة ، فإن الكلام فيها ليس إلا المراكب من الحروف .
الثاني – أنه لا يوافق الشرع ، إذ قد ورد فيما لا يحصى كتاباً وسنة أن الله تعالى ينادى عباده ، ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت ، بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة ، وباب المجاز وغن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناها مما لا يقبله العقل السليم .
الثالث – أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحداً يخالف العقل ، فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف مدلوله في النهي ، ومدلول الإنشاء ، بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر أخر ، وكذا في الخبر . ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية ، فيلزم أن يكون كل واحد مشتملاً على ما أشتمل عليه الآخر ، وليس كذلك ، وكيف يكون معنى واحداً خبراً وإنشاء محتملاً للتصديق والتكذيب ، وغير محتمل ، وهو جمع بين النفي والإثبات . أهـ .
ولا يخفى أن مبنى جميع أعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده ، أى المعنى المجرد عن مقارنة اللفظي مطلقاً ولو حكمياً .
وقد عرفت أنه ليس كذلك ، بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذى يدور في الخلد ، وتدل عليه العبارات ، كما صرح به إمام الحرمين ، وعليه إذا قال القائل : زيد قائم ، فهناك أربعة أشياء كما ذكر المعترض وشئ خامس تركه وهو المراد ، وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية على معانيها في النفس ، وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور .
( ونقول ) على سبيل التفصيل : أما الأول – فجوابه إنه إنما تممم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ والمعنى ، فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق ، خيالية في الخلق .
وأما الثاني فجوابه أن هذا الذى لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت ، إلا أنه لا يتكلم إلا به ، فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ ، بل إذا أمعنت النظر رأيت حجة له ، حيث بين أن الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظاً حقيقياص إلا على طبق ما في علمه ، وكل كا كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ، ودليلاً من ادلة ثبوتها . والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .
وأما الثالث – فجوابه أن المنعوت بانه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لاشك لعاقل فيها . وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحداً ، بل نص في الإبانة على أنقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل ، فلا اعتراض .
وقال النجم سليمان الطوفي : إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازاً في مدلولها لوجهين : أحدهما : أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هوالعبارة والمبادرة دليل الحقيقة .
الثاني – أن الكلام مشتق من الكلم ، لتأثيره في نفس السامع ، والمؤثر إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل نعم ، وهي مؤثرة للفائدة بالقوة ، والعبارة مؤثرة بالفعل ، فكانت أول بان تكون حقيقية ، وأخرى مجازاً . وقال المخالفون : أستعمل لغة في النفسي والعبارة .
قلنا : نعم ، لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه ، والمجاز فيما ذكرتموه ، والأول ممنوع ، قالوا : الأصل في الإطلاق الحقيقة . قلنا : والأصل عدم الإشتراك . ثم إن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات ، والكثرة دليل الحقيقة . وأما قوله تعالى : ] يقولون في أنفسهم [ [ المجادلة 8 ] فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة (( في أنفسهم )) ولو أطلق لما فهم إلا بالعبارة . وأما قوله تعالى : ] واسروا قولكم [ [ الملك 13 ] الآية – فلا حجة فيه ، لأن الإسرار خلاف الجهر ، وكلاهما عبارة عن ان يكون أرفع صوتاً من الآخر ، وأما بيت الأخطل وهو :
·    إن الكلام لفى الفؤاد وإنما * إلخ
فالمشهور : إن البيان . وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو في التصورات المصححة له ، إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاماً . ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان . أنتهى . وفيه ما لا يخفى .
واما أولاً – فلأن ما أدعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه ، لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفاً في النفسي ، والأصل في الإطلاق الحقيقة . وقوله : (( والأصل عدم الإشتراك )) قلنا : نعم ، وإن أردت به الإشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعى الاشتراك المعنوي ، وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين : ما يتكلم به قليلاً كان أو كثيراً ، حقيقة أو حكماً .
وأما الثانية – فلأن ما أدعاه من ان المؤثر في نفس المسامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية ، الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاماً لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئاً . وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاماً يحزنه ، وفي حالة حزنه كلاماً يسره فيتأثر بهما ، ولا صوت ولا حرف هناك ، وإنما هي حروف وكلمات مخيلية نفسية ، وهو الذى عناه الشيخ بالكلام النفسي . وعلى هذا فالسمع في قولهم لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد واللتأثير في النفس مطلقاً معتبر في وجه التسمية .
وأما ثالثاً – فلأن ما قاله في قوله تعالى ] يقولون في أنفسهم [ من أنه مجاز على المعنى النفسي فيه بقرينه (( في أنفسهم )) ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى : ] يقولون بأفواههم – وفي ىية – بالسنتهم ما ليس في قلوبهم [ إذا لو كان مجرد ذكر (( في انفسهم )) قرينة على كون القول مجازاً في النفسي لكان ذكر (( بأفواههم )) و (( ألسنتهم )) قرينة على كونه مجازاً في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم .
نعم ، والتقييد على دليل على ان القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين بن المراد من فردية فهو لنا لا علينا .
واما رابعاً – فلأن ما ذكرناه في قوله تعالى : ] وأسروا [ الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري : ما حدث به الرجل نفسه أو غيره من مكان خال ويساعده الكتاب والآثر واللغة ، كما لا يخفى على المتتبع .
وأما خامساً : فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه :
أما أولاً فعلى تقدير أن يكون المشهور (( البيان )) بدل (( الكلام )) يكفينا في البيان لأنه اسم مصدر بمعنى ما يبين به ، أو مصدر بمعنى التبيين . وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ . وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به، عن كان المراد التبيين القلبي ، اعنى ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها .
واما ثانياً – فلأن قوله (( وبتقدير )) ان يكون )) إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور .
واما ثالثاً – فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الأطلاق الحقيقة .
واما رابعاً – فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير المبالغة كما يفهم مما سلف ، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام ، فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد (( العينان دليلان ، والأذنان قمعان والسان ترجمان – إلى أن قال – والقلب ملك فإذا صلح )) الحديث . وفي حديث أبي هريرة (( القلب ملك وله جنود – إلى ان قال – واللسان ترجمان )) الحديث . فما قيل : إن هذا الشاعر نصراني عدو الله ورسوله ؟ أفيجيب أطراح كلام الله ورسوله تصحيحاً لكلامه ، أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه . وايضاً يحتاجون إلى أثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية ، فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت . أنتهى – كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت ، وأنه لأوهن البيوت .
أما أولاً – فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم .
وأما ثانياً – فلأنا أغناها الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر .
واما ثالثاً – فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى . والحاصل . ان الناس أكثروا القال والقيل ، في حق هذا الشيخ الجليل ، وكل ذلك من باب [ وافر ]. 
وكــم من عـائب قولاً صحيحــاً            وآفتــه من الفــم السقيـــم
نعم ، البحث دقيق ، ولا يرشد إليه إلا توفيق ، كم أسهر اناساً ، وأطثر وسواساً ، أثار فتنة ، وأورث محنة ، وسجن أقواماً واضر إماماً : [ وافـــر ]
مـــرام شــط العقــل فيـــه            ودون مـداه بيـــد لا تبيـــد
ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب ، وخلاصة ما ذكره والأصحاب ، وقد اندفع به كثير مما أشكل على الأقوام ، وخفى على أفهام ذوى الأفهام ، ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غني زاده في التخلص عن هاتيك الشبه ما نصه : ثك اعلم أنى ما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف ، إلى أنه لا ينبغي لذى الفطرة السليمة أن يدعى قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التطليفات ، وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به ، وكيف ومعنى قصة نوح مثلاً ليس بشئ يمكن أتصاف الذات به إلا بتحمل بعيد . فالحق الذى لا محيد عنه هو ان المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم ، لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسمياً يستدعيه حدوث الحوادث فيما لا يزال أقتضى الذات أقتضاؤ أزلياص إبراز ذلك البعض في الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال . فهذا الاقتضاء صفة قديمة للذات هو بها في الأزل مسماه يكون فيما لا يزال ، والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة ، وهذا هو غاية الغاية الغاايات في هذا الباب . والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب . أهـ .
وفيه أن غاية الغايات في الجسارة على باب الأرباب ، وإحداث صفة قديمة ما انزل الله بها من كتاب إذ لم يردفي كتاب الله ولا في سنة نبيه r ولا روى عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الإقتضاء كلاماً ، بل لا يقتضيه عقل ولا نقل ، على انه لا يحتاج إليه ، عند من أخذت العناية بيديه. هذا ، وإذا سمعت ما تلوناه ، ووعيت ما حققناه فاسمع الآن تحقيق الحق ، في كيفية سماع موسى u كلام الحق .
فأقول : الذي أنتهى إليه كلام ائمة الدين ، كالماتريدي والأشعري وغيرها من المحققين : أن موسى u سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كم تدل عليه النصوص التى بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل ، ,لا يناسب في مقابلته قال وقيل ، بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحدايث لا تحصى ، واخبار لا تستقصى . وروى البخاري في الصحيح : (( يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان )) . ومن علم أن الله الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء ، وانه منزه في تجليه ، قريب في تعاليه ، لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق ، إنه لخ الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق ، زالت عنه إشكالات ، واتضحت لديه متشابهات ، ومما يدل على ثبوت التجلى في المظهر لله تعالى قول ابن عباس ، ترجمان القرآن في قوله تعالى : ] أن بورك من النار [ [ النمل 8 ] كما الدر المنثور . يعني تبارك وتعالى نفسه ، كان نور رب العالمين في الشجرة . وفي رواية عنه (( كان الله في النور ونودي من النور )) وفي صحيح مسلم : (( حجابه النور )) وفي رواية له (( حجابه النار )) ودفع الله تعالى توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله : ] وسبحان الله [ أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن نادى ، لأنه لكونه موصوفاً بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره المتجلي ] أنا الله العزيز [ فلا أتقيد لعزتى ولكني ] الحكيم [ فاقتضت حكمتى الظهور والتجلي في صورة مطلوبك . فالمسموع على هذا حرف وصوت سمعهما موسى من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضاه الحكمة ، فهو u كليم الله بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار ، وهو عين تجلى الحق تعالى له .
اما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع النفسي القائم بذاته تعالى فهو من باب التجويز والإمكان ، لا أن موسى u سمع ذلك بالفعل ، إذ هو خلاف البرهان . ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي : (( ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به )) الحديث ومن الواضح أن الله تعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية كانت أو خيالية أو حسية – سمع العبد على الوجه اللائق الجامع أ (( ليس كمثله شئ )) عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي ، صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت ، لأنه بالله يسمع إذ ذاك ، واله سبحانه يسمع السر والنجوى .
والإمام الماتريدي أيضاً يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كلام التوحيد ، فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق .
ومعنى قول الأشعري : إن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تالٍ وقراءة كل قارئٍ – أن المسموع أولاً وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذى حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك ، لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق ، فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي ، لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة .
وقول الباقلاني : إنما نسمع التلاوة ، دون المتلو ، والقراءة دون المقروء يمكن حمله على انه أراد إنما يسمع أولاً وبالذات التلاوة ، أى المتلو اللفظي الذى حروفه عارضة لصوت التالي ، لا النفسي الذى حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية ، فلا نزاع في التحقيق أيضاً .
والفرق بين سماع موسى u سمع من اله عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ، ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض من حروفه لصوته ، لا من الله تعالى المتجلى من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعاً من الله بلا واسطة . وهذا واضح عند من له قدم راسخةفي العرفان ، وظاهر عند من قال بالمظاهر من تنزيه الملك الديان . وأنت إذا أمعنت النظر في قول أهل السنة : القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بالسنتنا مسموع بآذاننا ، محفوظ في صدورنا ، مكتوب في مصاحفنا غير حال في شئ منها رايته قولاً بالمظاهر ، ودلا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذاته تعالى فيها غير قادح في قدمه ، لكونه غير حال في شئ منها مع كون كل منها قرآناً حقيقة شرعية بلا شبهه .
وهذا عين الدليل على ان تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه ، وليس من باب الحلول والتجسيم ، ولا قيام الحوادث بالقديم ، ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك ، ومنه يظهر معنى القرآن في صورة الرجل الصاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر ، وظهوره خصماً لمن حمله ، فخالف أمره ، وخصماً دون من حمله فحفظ الأمر ، بل من احاط خبراً بأطراف ما ذكرناه ، وطاف فكره المتجرد عن مخيط الهوى في كعبة حرم ما حققناه – أندفع عنه كل غشكال في هذا الباب .
وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة ، واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ، فلا باس بأن نحكى بعض الأقوال ( فنقول ) : أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلماً : أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية ، كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية . وأتفقوا أيضاً على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات ، وأنه محدث مخلوق . ثم أختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى انه حادث في محل . ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاماً لنفسه في محل القراءة ، وخالفه الباقون .
وذهب أبو الهذيل بن العلاف واصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله ] كن [ وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار .
وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام البارى إذا قرئ فهو عرض ، وإذا كتب فهو جسم .
وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات . ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى انه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى ، لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر . وبعضهم قال لا ، بل الحروف حرفان ، والصوت صوتان : قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث .
وأما الكرامية فقالوا : إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم ، وقد يطلق على الأقوال والعبارات ، وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى ، لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لآكثر فيه ، وغن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر .
واما الواقفية فقد أجتمعوا على أن كلام الرب تعالى كان بعد أن لم يكن لكن منهم م توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه . ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق وأطلق أسم الحادث . ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهراً ولا عرضاً . وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلماً لا بكلام ولا بغير كلام . والذى أوقع الناس في حيص وبيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة ، وهما كلام الله تعالى صفة له ، وكل ما هو صفة له فهو قديم ، فكلام الله قديم ، وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود ، وكل ما هو كذلك فهو حادث ، فكلام الله تعالى حادث فقوم ذهبوا : إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ، ومنعوا ان كل ما هو مؤلف من حروف واصوات فهو حادث ، ونسب إليهم اشياء برآء منها وآخرون قالوا بحدوثه ، وأنه مؤلف من اصوات وحروف ، وهو قائم بغيره ، ومعنى كونه متكلماً عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم ، كاللوح أو ملك كجبريل ، أو غير ذلك . فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى . وأناس لما رأوا مخالفته الأولين للضرورة الظاهرة التى هي اشنع من مخالفة الدليل ، أو مخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة ذهبوا إلى ان كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى . فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم .
وجمع قالوا : كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى قديم ، فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات ، وكثر في حقهم القال والقيل ، والنزاع الطويل . وبعضهم تحير فوقف ، وحبس ذهنه في مسجد الدهشة واتعكف . وعندي القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان ، (( ولكل مقام مقال )) ، (( ولكل كلام أحوال )) ولا أظنك تحوجني إلى التفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل ، بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال اشنيعة التى هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيمة ، فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى ، وليغرد بفائدة لعلها أولى من افطالة وأحرى . والله تعالى الموفق – انتهى .

[ فتوى لابن تيميه عن كلام الله ]
ولنذكر من كلام الشيخ ابن تيميه – أعلى الله تعالى درجته – في ذلك ، حتى يتبين لك أنه سلك من المذاهب الأحمد معروف المسالك ، فقد قال في فتاويه ما نصه :
وسئل عن رجلين تنازعاً ، فقال أحدهما : القرآن حرف وصوت . وقال الآخر : ليس هو بحرف ولا صوت . وقال أحدهما : النقط التى في المصحف والشكل من القرآن . وقال الآخر ليس ذلك من القرآن . فما الصواب من ذلك حتى نعتقده .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس . ويخلطون فيها الحق بالباطل ، فالذى قال : إن القرآن حرف وصوت . إن أراد بذلك أن هذه القرآن الذى يقرؤه المسلمون هو كلام الله عز وجل ، الذى نزل به الروح الأمين ، على سيدنا محمد خاتم النبيين r ، وان جبريل سمعه من الله تبارك وتعالى ، والنبي r سمعه من جبريل ، والمسلمون سمعوه من الرسول r ، كما قال تعالى : ] قل نزله روح القدس من ربك [ [ النحل 102 ] و قال تعالى : ] والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [ [ الأنعام 114 ] فقد أصاب في ذلك . فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها ، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع . ومن قال : إن القرآن العربي لم يتكلم الله تعالى به ، وإنما هو كلام جبريل u أو غيره ، عبر به عن المعنى القائم بذات الله تعالى ، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقها . فهو قول باطل من وجوه كثيرة .
فإن هؤلاء يقولون : إنه معنى واحد قائم بالذات ، وغن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد ، لأنه لا يتعدد ولا يتبعض ، وإنه إن عبر عنه بالعربي كان قرآناً ، وبالعبرية كان توراة ، وبالسريانية كان إنجيلاً ، فيجعلون آية الكرسي ، وآية الدين ، وقل هو الله أحد ، وتبت يدا أبي لهب ، والتوراة والإنجيل ، وغيرها معنى واحداً . وهذا قول فاسد بالعقل والشرع وهو قول أحدثه ابن كلاب لم يسبقه إليه أحد من السلف .
وغن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء والمداد الذى في المصاحف قديم أزلي فقد اخطأ في ذلك وابتدع ، وقال ما يخالف العقل والشرع ، فإن النبي r قال : (( زينوا القرآن باصواتكم )) فبين أن الصوت صوت القارئ ، والكلام كلام الله تعالى ، كما قاله سبحانه : ] وإن أحد من المشركين استجارك فأحره حتى يسمع كلام الله [ [ التوبة 6 ] فالقرآن الذى يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى لا كلام غيره ، كما ذكر الله تعالى ذلك .
وفي السنن عن جابر بن عبد الله t أن النبي r كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول : (( ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ، فإن قريشاًَ قد منعوني أن أبلغ كلام ربي )) وقالوا لأبي بكر الديق t لما قرا عليهم : ] آلم غلبت الروم [ [ الروم 2 ] هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ، ولكنه كلام الله تعالى .
والناس إذا بلغوا كلام النبي كقوله : (( إنما الأعمال بالنيات )) يعلمون أن الحديث الذى يسمعونه حديث النبي r ، تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه ، والمحدث بلغة عنه بصوت النبي r .
فالقرآن أولى أن يكون كلام الله تعالى إذا بلغته الرسل عنه ، وقرأته الناس بأصواتهم ، والله عز وجل تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف ، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ، ولا مثل صوته ، فإن الله ليس كمثله شئ ، لا في ذاته ولا في أفعاله .
وقد نص أئمة المسلمين على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله تبارك وتعال ينادي بصوت ،وان القرآن كلامه تكلم به بحروفه ليس منه شئ كلاماً لغيره ، لا جبريل ولا غيره ، وان العباد يقولونه باصوات أنفسهم وافعالهم ، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ ، والكلام كلام البارى تبارك وتعالى .
وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب ، بل يجعل هذا هو هذا ، فينتفيهما جميعاً أو يثبتهما جميعاً . فإذا نفى الحرف والصوت نفى ان يكون صوت العبد صفة لله تعالى ، ثم جعل كلام الله تعالى الفرق دون ذاك النفي الذى فيه نوع من الإلحاد والتعطيل ، حيث جعل الكلام المتنوع شيئاً واحداً لا حقيقة له عند التحقيق .
وغذا اثبت جعل صوت الرب سبحانه هو صوت العبد أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله إن الحروف متعاقبة في الوجود ، مقترنة في الذات ، قيمة أزلية الأعيان ، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد أو تتحد بصفة ، فقال بنوع في الحلول والاتحاد يفضى إلى نوع من التعطيل .
وقد علم أن نفي الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته ، والمخلوق وصفاته خطأ وضلال ، لم يذهب إليه احد من سلف الأمة وائمتها ، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد ، ومتفقون على أن الله تعالى تكلم بالقرآن الذى أنزله على نبيه محمد r حروفه ومعانيه ، وأن ينادي عباده بصوته . ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد ، وعلى أنه ليس شئ من أصوات العباد ، ولا مداد المصاحف قديماً ، بل القرآن مكتوب في مصاحق المسلمين ، مقروء بالسنتهم ، محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله تعالى .
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط ، لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون .
ثم لما حدث الحن نقط الناس المصاحف وشكلوها ، فإن كتبت بلا شكل ولا تلفظ جاز ، ولم يكره في أظهر قولى العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن احمد رحمه الله تعالى ، وحكم النقط والشكل حكم الحروف ، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط والحروف ، والمداد الذى تكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق ، وكلام الله تعالى العربي الذى أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق .
وحكم الإعراب حكم الحروف ، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المنطوقة . والشكل والنقط لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المرسومه ، فلهذا لا يحتاج إلى تجريدهما وإفرادهما بالكلام ، بل القرآن الذى يقرؤه المسلمون هو كلام الله سبحانه معانيه وحروفه وإعرابه ، والله تبارك وتعالى تكلم بالقرآن العربي الذى أنزله على نبينا محمد r ، والناس يقرءمنه بأفاعلهم وأصواتهم . والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله عز وجل ، وهو القرآن العربي الذى انزله على نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ، سواء كتب بشمل ونقط أو بغير شكل ونقط .
والمداد الذى كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق . والقرآن الذى كتب في المصحف هو كلام اله تبارك وتعالى منزل غير مخلوق . والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين ، لأن كلام الله تعالى مكتوب فيها ، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف منقوطاً كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين .
ولهذا قال أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما : حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه . والله تعالى تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه فجميعه كلام الله تعالى . فلا يقال : بعضه كلام كلام الله تعالى ، وبعضه ليس كلام الله عز وجل .
وهو سبحانه نادى موسى u بصوت سمعه موسى ، فإنه سبحانه قد اخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن ، كما قال تعالى : ] هل أتلك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالوادى المقدس طوى [ [ النازعات 16 ] والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة .
وقد قال الله تعالى : ] أنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده واوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً . ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً [ [ النساء 163 ، 164 ] ، فمن قال : إن موسى لم يسمع صوتاً بل ألهم معنى لم يفرق بين موسى وغيره .
وقد قال تعالى : ] تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات [ [ البقرة 253 ] .
وقال تعالى : ] وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل فيوحي بغذنه ما يشاء [ [ الشورى 51 ] ، فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب كما كلم الله موسى ، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالاً .
وقد قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة : لم يزل الله عز وجل متكلماً إذا شاء ، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته ، يتكلم بشئ بعد شئ ، كما قال تعالى ] فلما أتاها نودي يا موسى [ [ طه 11 ] فناداه حين أتاها لم يناده قبل ذلك .
وقال تعالى : ] فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشحرة ، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [ [ طه 121] فهو سبحانه ناداهما حين أكلا منها لم ينادهما قبل ذلك .
وكذلك قوله تعالى : ] ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [ [ الأعراف 11 ] بعد أن خلق آدم u وصوره لم يأمره قبل ذلك .
وكذا قوله تعالى : ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ [ آل عمران 59 ] . فأخبر أنه قال له (( كن فيكون )) بعد أن خلقه من تراب . ومثل هذا في القرآن كثير ، يخبر أنه تكلم في وقت معين ، ونادى في وقت معين ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي r ، أنه لما خرج من باب الصفا قرأ قوله تعالى : ] إن الصفا والمروة من شعائر الله [ [ البقرة 158 ] . قال : (( نبدأ بما بدأ الله تعالى به )) فأخبر أن الله تعالى بدأ بالصفا قبل المروة .
والسلف اتفقوا على أن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين . ثم قالت طائفة : وهو معني واحد ، وهو الأمر بكل مأمور ، والنهي عن كل منهي . والخبر بكل مخبر ، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبيرية مان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً . وهذا قول مخالف للشرع والعقل .
وقالت طائفة : هو حروف وأصوات قديمة الأعيان ، لازمة لذات الله تعالى لم تزل لازمة لذاته ، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً أزلاً وأبداً ، لم يسبق منها شئ سيئاً . وهذا أيضاً مخالف للشرع والعقل .
وقالت طائفتان : إن الله عز وجل لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، وإنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذى سمعه موسى u ، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادى المقدس ، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ولكن تلك الساعة سمع النداء .
وهؤلاء وافقوا الذين قالوا : إن القرآن مخلوق في اصل قولهم : إن الرب سبحانه لا تقوم به الأمور الاختيارية ، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته . وقالوا هذه حوادث ، والرب جل جلاله لا تقوم به الحوادث ، فخالفوا صحيح المنقول ، وصريح المعقول . واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم ، واخطئوا في ذلك 0 فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا .
وادعوا أن الرب سبحانه لم يكن قادراُ في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله ، وانه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً بغير أمر حدث . أو يغيرون العبارة فيقولون : لم يزل قادراص ، لكن يقولون : إن المقدور كان ممتنعاً ، وأن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً عليه من غير تجدد شئ . وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا : كان قادراً في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال على ما يمكن في الأزل ، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادراً في حال كون المقدور عليه ممتنعاً عندهم ، لو يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه ، كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا ، بل المتفلسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه : فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول . فإن الأدلة لا تدل على قدم شئ بعينه من العالم ، بل تدل على أن ما سوى الله تعالى مخلوق حادث بعد أن لم يكن ، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته ، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية والفاعل بمشيئته لا يكون شئ من مفعوله لازماً لذاته بصريح العقل .
واتفاق عامة العقلاء ، بل وكل فاعل لا يكون شئ من مفعوله لازماً لذاته ، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له ، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف بالفاعل بالإرادة ؟ وما يذكر من أن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجرى مجرى الشروط ، فإن الشرط يجب أن يتقدم على المشروط بل يقارنه كما تقدم الحياة العلم ، واما ماكان فاعلاً سواء علة أو لم يسم علة فلابد أن يتقدم على الفعل المعين ، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شئ من مفعولاته ، ولا يعرف العقلاء عاقلاً قط يلتزمه مفعول معين ، وقول القائل : حركت يدى فتحرك الخاتم ، هو من باب المشروط لا من باب الفاعلين . ولأنه لو كان العالم قديماً لكان فاعله موجباً بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه ، ولو كان كذلك لم يحدث شئ من الحوادث . وهذا خلاف المشاهدة . وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل ، بل لم يزل متكلماً إذا شاء ، وفاعلاً لما يشاء ، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام ، والعالم فيه من الإحكام والاتقان مادل على علم الرب سبحانه ، وفيه من الاختصاص مادل على مشيئته ، وفيه من الإحسان مادل على علم الرب تعالى وفيه من الاختصاص مادل على مشيئته ، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته ، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته ، وفيه من الحوداث ما دل على قدرة الرب تعالى ، مع أن الرب عز وجل مستحق لصفات الكمال لذاته ، فإنه مستحق لكل كمال ممكن الوجود لا نقص فيه ، منزه عن كل نقص .
وهو سبحانه ليس كفؤ في شئ من أمور ، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفضيل ، منزه فيها عن التشبييه والتمثيل ، ومنزه عن النقائض مطلقاً ، فإن وصفه بها من اعظم الأباطيل ، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره ، هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الإحياء ، وخالق صفات الكمال أحق بها ممن لا كفء له فيها .
وأصل أضطراب الناس في مسألة الكلام – أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسالة حدوث العالم اعتقدوا ان ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً ، بناء على أن مالا يتناهى لا يمكن وجوده ، والتزموا أن الرب سبحانه كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام ، بل كان ذلك ممتنعاً عليه ، وكان معطلاً عن ذلك . وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأزل ، فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته ، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له اولاً ، والأزل لا أول له ، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين . ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين وبين ما يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام ، بل هذا يكون دائماً ، وإن كان كل من آحاده حادثاً كما يكون دائماً في المستقبل ، وإن كان كل آحاده فانياً بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً ، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصريح النقل .
لهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك ، لم ينافه إلا شرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين يزعمون أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب الوجود بغيره ، فخالفوا بذلك جماهير العقلاء ، مع مخالفتهم أرسطو وأتباعه ، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك ، وإن قالوا بقدم الإفلاك ، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين ، بناء على إثبات علة غنائية لحركة الفلك بتحرك الفلك للتشبيه بها لم يثبتوا له فاعلاً مبدعاً ، ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره .
وهم وغن كانوا أجهل بالله تبارك وتعالى وأكفر من متأخريهم ، فهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما مكناً بذاته فلا يكون محدثاً مسبوقاً بالعدم . فاحتاجوا أن يقولوا : كلامه مخلوق منفصل عنه . وطائفة وافقتهم على امتناع وجود مالا نهاية له ، لكن قالوا له : تقوم به الأمور الاختيارية فقالوا : إنه في الأزل لم يكن متكلماً ، بل ولا كان الكلام مقدوراً له ، ثم صار متكلماً بلا حدوث حادث بكلام بقوم به ، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم .
وطائفة قالت : إذا قال القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازماً لذات الرب سبحانه ، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته .
ثم منهم من قال : هو معني واحد قديم ، فجعل ىية الكرسي ، وآية الدين ، وسائر أيات القرآن والتوراة والأنجيل ، وكل كلام يتكلم الله به – معنى واحداً لا يتعدد ولا يتبغض .
ومنهم من قال : إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات .
وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم : إنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه وبمشيئته قدرته ، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية . وقالوا إنه لم يستوا على عرشه بعد ان خلق السماوات والأرض ، ولا ياتى يوم القيامة ، ولم يناد موسى حين ناداه ، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ، ولا تفرحه توبة التائبين . وقالوا في قوله عز وجل : ] وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [ [ التوبة 105 ] ونحو ذلك : إنه لا يراها إذا وجدت ، بل إما أنه لم يزل رائياً لها ، وإما أنه يتجدد شئ موجود بل تعدد معدوم ، إلى أمثال هذه المقالات التى خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة مع مخالفة صريح العقل .
والذى ألجأهم إلى ذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام ، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم : لم يزل الله تعالى متكلماً إذا شاء ، ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم : الخلقية والحدوثية ، والاتحادية ، والافتراقية . وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون : إن الله سبحانه لم يتكلم بكلام قائم بذاته ، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته ، لا قديم النوع ولا قديم العين ، ولا حادث ولا مخلوق ، بل كلامه عندما يفيض على نفوس الأنبياء عليهم السلام .
ويقولون : إنه كلمة موسى من سماء عقله ، وقد يقولون : إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فإنه إنما يعلمها على وجه كلي .
ويقولون مع ذلك : إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله . وقولهم : نفسه ومفعولاته حق ، كما قال تعالى : :] ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ [ الملك 14 ] لكن قولهم مع ذلك : أنه لا يعلم الأعيان المعينة جهل وتناقض ، فإن نفسه المقدسة معينة ، والأفلاك معينة ، وكل موجود معين ، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات ، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
وهم إنما ألجأ لهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للبارئ تعالى مع ان هؤلاء يقولون : إن الحوادث تقوم بالقديم ، وإن الحوادث لا أول لها ، لكن نفوا ذلك عن البارئ عز وجل ، لاعتقادهم أنه لا صفة له ، بل هو وجود مطلق . وقالوا : إن العلم نفس عين العالم ، والقدرة نفس عين القادر . والعلم والعالم شئ واحد ، والمريد والإرداة شئ واحد . فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى ، وجعلوا الصفات هي الموصوف .
ومنهم من يقول : بل العلم هو المعلوم ، كما يقوله الطوسي صاحب شرح الإشارات ، فغنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه . وابن سينا أقرب إلى الصواب ، لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به ، وجعل الصفة عين الموصوف ، وكل صفة هي الأخرى . ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول : معاني الكلام شئ واحد ، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا : إذ جاز المعاني المتعددة شيئاً واحداً جاز أن يكون العلم هو القدرة هي الإرادة . فاعترف حذاق أولئك بان هذا الإلزام لا جواب عنه .
ثم قالوا : وإذ جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى جاز أن تكون الصفة هي الموصوف .
فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوى ونحوهم من الملحدة فقالوا : إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الاخرى ، والصفة هي الموصوف جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق ، فقالوا : إن وجود كل مخلوق هو وجود الخالق . وقالوا : الوجود واحد ، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين ، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع .
وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد الذى قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات ، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه ، وقالوا : هو يتكلم بحرف وصوت قديم . قالوا : أولاً إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته . ولا تسبق الباء السين ، بل لما نادى موسى فقال : ] أننى أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني [ [ طه 14 ] ، ] إنى أنا الله رب العالمين [ [ القصص 30 ] كانت الهمزة والنون وما بينهما موجوداً في الأزل يقارن بعضها بعضاً ، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله تعالى .
ثم قال فريق منهم : إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء . وقال بعضهم : بل المسموع صوتان قديم وحادث . وقال بعضهم : اشكال المداد قديمة أزلية . وقال بعضهم : محل المداد قديم أزلي . وحكى عن بعضهم أنه قال : المداد قديم أزلي . وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه ، بل منهم من يظن أن معناه أنه قديم في علمه ، ومنهم من يظن أن معناه أنه متقدم على غيره ، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق ، ومنهم من لا يميز ما هو له فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات ، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات مع الصفات . وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل .
والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها – أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء ، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وان كلماته لا نهاية لها ، وأنه نادى موسة u بصوت سمعه موسى ، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك ، وان صوت الرب تبارك أسمه لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم ، وقدرته لا تماثل قدرتهم ، وانه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ، ليس في مخلوقاته شئ من ذاته وصفاته القائمة بذاته ، ولا في ذاته شئ من مخلوقاته . وأن أقوال أهل التعطيل ولا تحاد الذين عطلوا اللذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة ، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة ، وهذه المور مبسوطة في غير الموضع ، وقد بسطناها في الواجب الكبير . والله تعالى اعلم بالصواب ، والحمد لله تعالى وحده – أنتهى بحروفه .
وقال السفاريني في شرح العقيدة ما نصه : وقد روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على اربعين حديثاً ، وأخرج الإمام أحمد عالبها واحتج به . واخرج الحافظ ابن حجر أيضاً في شرح البخاري ، واحتج بها البخاري وغيره من أئمة الحديث 0 على ان الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت . وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه ، واعتمدوا على ذلك منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله من شبهات الحدوث وسمات النقص .
كما قالوا في سائر الصفات معتمدين على ما صح عندهم عن صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله ، الذى لا ينطق عن الهوى r .
وممن ذهب إلى مذهب السلف والحنابلة من قدم الكلام وانه بحروف وصوت من متأخري محققى الأشاعرة : صاحب المواقف . أنتهى باقتصار .
( قلت ) : وممن ذهب إليه ايضاً من المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي الأشعري في كتابه (( إفاضة العلام بتحقيق مسألة الكلام )) وهو كتاب قلما يوجد مثله في تحقيق هذه المسألة التى حيرت الأفهام ، وقد حاكم فيها الحنابلة مع الأشعرية ، واثبت الكلام النفسي الذى نفته بعض الحنابلة ، وحقق اللفظي المنفي عند كثير من الأشاعرة ، ونقل ما يؤيد ذلك من كلام ذينك الإمامين ، وأن الأئمة الأربعة في أصول الدين عير مختلفين ، بل تراهم في القول بتوحيد الله تعالى وتنزيهه في ذاته وصفاته مؤتلفين .
وان الأشعري رحمه الله تعالى على مناهجهم أجمعين ، كما قاله ابن عساكر في كتابه (( تبيين كذب المفترى على ابى الحسن الأشعري )) فإن أردت التفصيل فعليك بذلك الكتاب الذى يعز له مثيل .
ونقل أيضاً الكوراني في رسالته المسماه (( بنوال الطول في تحقيق الإيجاد بالقول )) عن الشيخ محيى الدين بن عربي أنه قال : لله تعالى تجل في صورة يقبل القول والكلام بترتب الحروف قد ذكرناه في التجلي الإلهي الذى خرجه مسلم في الصحيح ، وهو من رواية ابي سعيد الخدري ، وفيه : (( أتاهم رب العالمين في أدنى صورة عن التى رأوه فيها – ثم قال بعده – ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التى رأوه فيها اول مرة )) .
وعن البخاري بلفظ (( فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التى رأوه فيها أول مرة )) والأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر – أنتهى .
ثم قال فيها : إن الكلام النفسي بمعنى المتكلم به قديم لا تعاقب بين كلماته ، أما الكلام اللفظي المسموع من التجلي الإلهي في الصورة فبين كلماته ترتب زماني وتعاقب . واخرج الطبراني عن ابن عباس t مرفوعاً (( أن الله تعالى ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة ايام …. )) الحديث . وهذا صريح في تعاقب الكلمات وترتيبها بحسب الزمان وصريح الأحاديث أن الله تعالى هو الذى كلم موسى u بلا واسطة رسول ، لكنه من وراء حجاب الظاهر بصورة النار . وغذا ثبت ذكر الصوت في الأحاديث المتعددة وجب الإيمان به . انتهى ملخصاً .
( وقال ) أيضاً في شرح منظومة شيخه الشيخ أحمد القشاشى المدنى ما نصه : قال الجامى رحمه الله تعالى : ولنذكر في هذا المقام كلام الصوفية ليتضح ما هو الحق ، قال حجة الإسلام : الكلام على ضربين : أحدهما يطلق في حق الباري تعالى . والثاني في حق الآدميين .
أما الكلام الذى نسب إليه تعالى فهو صفة من صفات الربوبية فلا تشابه بين صفات البارى وصفات الآدميين – إلى أن قال – فإذن كلام البارى تعالى ليس شيئاً سوى إفادته وإفاضته مكنونات علمه على من يريد إكرامه ، كما قال : ] ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [ [ الأعراف 143 ] شرفه بقربه ، وقربه بقدسه ، وشافهه بأجل صفاته ، وكلمه بعلم ذاته ، فكما شاء تكلم ، وكما أراد سمع . أنتهى .
ثم ساق عن غيره من أكابر المحققين مامنه : أعلم أن الله تعالى قد أخبرنا بنبيه r أنه سبحانه يتجلى يوم القيامة في صور مختلفة فيعرف وينكر ، ومن كانت حقيقته تقبل التجلى فلا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماه كلام الله تعالى لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله فكما نقول تجلى في صورة كما يليق بجلاله ، كذلك نقول تكلم بحرف وصوت كما يليق بجلاله ، ونحمله محمل الفرح والضحك ، والعين والقدم ، واليد ، اليمين ، وغير ذلك مما قدر ورد في الكتاب مما يجب الإيمان به على المعنى المعقول من غير كيفية ولا تشبيه ، فإنه يقول : ] ليس كمثله شئ [ [ الشورى 11 ] مع عقل المعنى .
ثم ساق عن غيره من الأكابر كلاماً في تحقيق الكلام إلى أن قال في آخر ذلك : فالذى يظهر من كلام هؤلاء الأكابر أن الكلام الذى هو صفته سبحانه ليس سوى إفادته وإفاضته مكنونات علمه على ما يريد إكرامه ، وان الكتب المنزلة المنظومة من حروف وكلمات كالقرآن وامثاله أيضاً كلامه لكنها في بعض صور تلك الإفادة والإفاضة ظهرت بتوسط العلم والإرادة والقدرة في البرزخ الجامع بين الغيب والشهادة ، يعني عالم المثال من بعض مجاليه الصورية المثالية كما يليق به سبحانه . فالقياسان المذكوران في صدر البحث ليسا بمتعارضين في الحقيقة ، فإن المراد بالكلام في القياس الأول الصفة القائمة بذاته سبحانه ، وفي الثاني ما ظهر في البرزخ من بعض المجالي الإلهية والاختلاف الواقع بين فرق المسلمين لعدم الفرق بين الكلامين . انتهى .

( أقول ) : دل كلام هؤلاء الأكابر على ان الحق سبحانه له أن يتجلى في أي صورة شاء مع تنزيهه عن كل صورة في كل حال ، وينبغي لطالب الحق غير الجامد على المألوف من الرسوم المقررة – أن يتنبه لنفاسة هذا الكلام ، وجلالة هذه الفائدة الصادرة عن مقام الرسوخ في العلم من طريق الوهب  والله يجتبى إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . انتهى فليتدبر .