الخميس، 11 سبتمبر 2014

دعوى تكلفه الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم



دعوى تكلفه الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم !
د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن
المبحث الثالث
دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم، ومناقشتها


المطلب الأول
دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يألوا جهداً في بث هذا البغض في كتبه عن طريق الغمز فيهم، وفي فضائلهم، وإن تستر بحبهم، والثناء عليهم.
فيقولون عنه: إنه ينفي كل فضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه، أو لأهل بيته (193).
وأنه من أعداء آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(194) .
وأنه شبّه فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها بالمنافقين(195) .
ويرون أنه أظهر بغضه لرابع الخلفاء الراشدين أكثر من غيره من آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك يتضح بالآتي:
أ - إنكاره العلم الخاص بعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وإنكار كونه أكثر علماً من أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه يقول أحدهم: (زاد ابن تيمية فأنكر اختصاص علي عليه السلام بعلم لا يكون عند الشيخين رضي الله عنهما)(196) .
وقال آخر في مقام بيانه أن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أكثر علماً من الشيخين رضي الله عنهما: (وابن تيمية أعرف الناس بذلك، ولكنه يفتري الكذب، ويتجاهل لنصرة رأيه، وغمط حق المولى علي عليه السلام، بل كل من يصرح بأعلمية أبي بكر على علي رضي الله عنهما فإنما يباهت، وينكر ما يكاد يعلمه من نفسه بالضرورة، بل هو معلوم بالضرورة جزماً)(197) .
وذكروا من علومه الخاصة به دون غيره: بسط اليد في العلم الظاهر والباطن، والإخبار عن الأحداث الماضية والآتية إلى قيام الساعة!(198) .
ب - الحقد الدفين عليه، وإبطان بغضه، وإن تستر بحبه، وأنه لم يكف - أبداً - عن انتقاص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وذكره بالقبيح(199) .
ج - أنه لا يرى أن خلافة علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه خلافة نبوة (200).
د - أنه يرى أن الباغي والمعتدي هو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه على معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنه يقول أحدهم: (يشير بذلك إلى أن البغي وقع من علي عليه السلام) (201).
هـ - أنه ينتقص علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في سائر صفات الفضل من العلم، والزهد، والصدق، والشجاعة وغيرها (202).

المطلب الثاني
مــنــاقــشــة الــدعــوى
الحديث في هذا المطلب سوف ينحصر - بإذن الله - في مسألتين:
المسألة الأولى : موقف ابن تيمية من آل البيت عموماً.
المسألة الثانية : بيان موقف ابن تيمية رحمه الله من علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه خصوصاً، لإفراد خصوم ابن تيمية رحمه الله الحديث عنه كثيراً.

أما الأولى : فموقف ابن تيمية رحمه الله من آل البيت واضح جلي لمن استعرض كتبه: فهو يعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة فيهم وهو محبتهم والثناء عليهم، وقد قرر وجوبها وفرضيتها في مواضع متعددة من كتبه، يقول رحمه الله: (محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه..)(203) ، وقال: (ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم واجبة)(204) ، وكلما زادت محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قلب امريء مسلم فإنه تزيد محبته لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك فإن أكثر من عرف حق آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم هو أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه، وذلك لمحبته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المحبة الكاملة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وكان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأهل بيته، فإن كمال محبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم أوجب سراية الحب لأهل بيته، إذ كان رعاية أهل بيته مما أمر الله ورسوله به)(205) ، وذكر قول الصديق: (ارقبوا محمداً في آل بيته)(206) ، وقال: (والله لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إلي أن أصل من قرابتي)(207) .
وقد توقف رحمه الله في كلام نفيس له حول أفضلية أهل البيت على غيرهم ممن هو دونهم؛ بأنه ليس للنسب فقط - وإن كان النسب له اعتبار - وإنما لاجتماع النسب مع الإيمان والتقوى، كما قال الله عزّ وجل عن آل الأنبياء بعد ذكره جملة منهم: { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] ، فحصول الفضيلة لهم كان بمجموع الأمرين: هدايتهم إلى الصراط المستقيم، واجتباؤهم وتفضيلهم على غيرهم في النسب، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»(208) ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(209) .
يقول رحمه الله: (لا ريب أن لآل محمد صلّى الله عليه وسلّم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل.. وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة، ومدح الله عزّ وجل للشخص المعين، وكرامته عند الله تعالى فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح، وهو التقوى، كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .. وهذا لا ينافي ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض، فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» ، فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب، ومعدن فضة؛ كان معدن الذهب خيراً؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه، فإن قُدِّر أنه تعطل ولم يُخرج ذهباً، كان ما يخرج الفضة أفضل منه)(210) .
وبين أن الأمر وسط فلا تلغى فضيلة النسب جملة، ولا تجعل هي المعيار الوحيد لقرب العبد من ربه أو بعده منه فقال: (هذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، دون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلاً عمّن هو أعظم إيماناً وتقوى، فكلا القولين خطأ وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية...)(211) .
وقد نبّه رحمه الله إلى منهج الوسطية عند أهل السنة والجماعة في محبة آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا يجوز الغلو فيهم، وإعطاؤهم فوق منزلتهم؛ لأن هذا شرك بهم، كما أنه لا يجوز انتقاص قدرهم، وغمطهم حقهم، سواء كان ذلك تحقيراً لهم، وعدم اعتراف بحقهم، أو كان ذلك من باب مقابلة الغلو بالإجحاف والتقصير، يقول - قدس الله روحه -: (الغالية في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ، تجدهم مشركين بهم، لا متبعين لهم في خبرهم وأمرهم، فخرجوا عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)(212) ، ويقول رحمه الله في ضرب الأمثلة لمن قابل البدعة ببدعة مثلها: (كما قد يصير بعض الجهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت؛ إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها)(213) .
وأهل البيت عقيدتهم هي عقيدة الصحابة، أهل السنة والجماعة، ودينهم الصدق والتقوى، لا الكذب والتقية - كما تزعمه الرافضة -، وهذا ما يقرره شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: (إن أئمة أهل البيت كعليّ وابن عباس ومن بعدهم، كلهم متفقون على ما اتفق عليه سائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان من إثبات الصفات والقدر)(214) .
ويقول: (وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم متفقون على القول الوسط، المغاير لقول أهل التمثيل، وقول أهل التعطيل)(215) .
إن لأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقوقاً على المسلمين، وإن عليهم حقوقاً - أيضاً - فمنها: استحقاقهم الفيء(216) ، وأن الصدقة لا تحل لهم(217) ، ومما يتميزون به أن إجماع العترة حجة(218) ، ومما يتميزون به - أيضاً - وجوب الصلاة عليهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»(219) ، وفي حديث أبي حميد الساعدي(220) «وعلى أزواجه وذريته»(221) ، يقول رحمه الله: (الصلاة والسلام على آل محمد، وأهل بيته تقتضي أن يكونوا أفضل من سائر أهل البيوت، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون: بنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم)(222) .
وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من آل بيته - على الصحيح - كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما : أنهن لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم(223) ، والثاني - وهو الصحيح - أن أزواجه من آله)(224) .
وقال:(ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين)(225).
ولذلك فإن محبتهن واجبة، وبغضهن وسبّهن محرم:
يقول رحمه الله: (ويتولون أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة(226) رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية.
والصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»(227) )(228) .
وأما من قذف أمهات المؤمنين أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: سواء كانت عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أو غيرها، فهو كافر؛ لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده(229) .
ولا يزال ابن تيمية رحمه الله يثني على آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيعتقد أن أفضل أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الرسول عليه الصلاة والسلام(230) .
وأما أفضل آل بيته من بعده فهو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ثم حمزة(231) ، وجعفر(232) ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب(233) ؛ وهؤلاء هم السابقون للإسلام(234) .
وأما أعلم آل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ثم ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما كما بين ذلك في منهاج السنة(235) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو مثل موقف أهل السنة، والجماعة تجاهها، حيث هي من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن السابقين إلى الإسلام، ويعتقد أنها سيدة نساء العالمين(236).
وأن تزويجها لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فضل له، لا لها(237) ، وقد بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم محبته لها في أحاديث متعددة منها قوله: «إنما ابنتي بضعة مني يَريبني مارابها ويؤذيني ما آذاها »(238) ، وفي مقام بيانه صلّى الله عليه وسلّم عدم قبوله الشفاعة في حدود الله حتى في أقرب قريب وحبيب ضرب لذلك مثلاً بأقرب الناس إليه وهي فاطمة حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »(239) ، وبين رحمه الله أن الرافضة يذمونها بما ظاهره المدح(240) .
وأما موقفه من الحسن(241) ، والحسين(242) رضي الله عنهما فهو: - كمن سبقهما -، واحتج بالحديث الصحيح في فضل الحسن (ت - 49هـ) رضي الله عنه وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم عنه: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه»(243) .
وقال عن الحسين (ت - 61هـ) رضي الله عنه: (والحسين رضي الله عنه ولعن قاتله قُتل مظلوماً شهيداً في خلافته(244) )(245) .
وقال عنهما في مقام الثناء عليهما، والاعتذار لهما: (الحسن تخلى عن الأمر وسلمه إلى معاوية، ومعه جيوش العراق، وما كان يختار قتال المسلمين قط، وهذا متواتر من سيرته... والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه، أو الذهاب إلى الثغر..)(246) .
وقال: (والحسن والحسين من أعظم أهل بيته اختصاصاً به)(247) ، ثم ذكر الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أدار كساءه على علي، وفاطمة، والحسن والحسين ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(248) .
وقال رحمه الله عن علي بن الحسين(249) : (من كبار التابعين، وساداتهم علماً وديناً) (250).
وقال: (وأما ثناء العلماء على علي بن الحسين ومناقبه فكثيرة...) (251).
وأما أبو جعفر الباقر (252)، فقد قال عنه ابن تيمية رحمه الله: (من خيار أهل العلم والدين، وقيل: إنما سمي الباقر، لأنه بقر العلم؛ لا لأجل بقر السجود جبهته) (253).
وقال رحمه الله عن جعفر الصادق (ت - 148هـ) : (من خيار أهل العلم والدين..) (254).
وقال عنه: (فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة) (255).
وقال عن أبي جعفر الباقر (ت - 114هـ) وجعفر الصادق (ت - 148هـ) - رحمهما الله -:
(ولا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين، وأئمة الدين، ولأقوالهم من الحرمة والقدر ما يستحقه أمثالهم) (256).
ونقل في توثيق موسى بن جعفر (257)، قول أبي حاتم الرازي (ت - 277هـ) رحمه الله عنه: (ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين) (258).
وأما من بعد هؤلاء من الأئمة الاثني عشر فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم (259).
وفي الجملة: فمحبة ابن تيمية رحمه الله لآل البيت ظاهرة، وثناؤه عليهم متواصل، سواء كان ذلك في فضائلهم العامة التي يشتركون فيها جميعاً، أو كان ذلك في فضائل بعضهم على بعض، أو على سائر الأمة، يقول رحمه الله مقرراً حقوقهم بكلام عام: (ولا ريب أن لآلِ محمد صلّى الله عليه وسلّم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم.. ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم، وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء، وبنو المطلب معهم في ذلك.. فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلاً صالحاً) (260).
وفي المقابل فإن الرافضة يلمزون أهل السنة والجماعة جميعهم بالوقيعة في أهل البيت، وبغضهم، كما فعلوا ذلك بابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله وغيره (261).

المسألة الثانية : موقف ابن تيمية رحمه الله من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أثنى ابن تيمية رحمه الله على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه وذكر فضائله، ومناقبه، وأنصفه من خصومه، ولكي أعطي صورة سريعة ومجملة حول موقفه منه يحسن بي أن أذكر النقاط التالية:
1 - علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الخلفاء الأوائل الثلاثة، وذلك موافق للنصوص الشرعية (262).
2 - أنه آخر الخلفاء الراشدين، وأن ذلك مما اتفقت عليه الأمة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم) (263).
وقد أثبت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن خلافته خلافة نبوة، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في مواضع متعددة (264)، من حديث سفينة(265) المشهور قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء » قال سفينة رضي الله عنه: أمسك: مدة أبي بكر سنتان، وعمر عشر، وعثمان اثنتا عشرة، وعليّ كذا) (266)، أي ست سنوات.
قال ابن تيمية رحمه الله: (عليّ آخر الخلفاء الراشدين، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة، وكلٌ من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين) (267).
3 - أن محبته من السنة ومن الإيمان، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما علي رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين) (268).
4 - أنه من أهل الجنة وأنه يموت شهيداً (269).
5 - أن سيرته فيها العلم والعدل والبر والرشاد، كما يقول عنه شيخ الإسلام: (وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر) (270)، ويقول - أيضاً -: (وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال: التسوية، وكذلك سيرة علي رضي الله عنه، فلو بايعوا علياً أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر، مع كون قبيلته أشرف القبائل..) (271).
6 - أثبت له ابن تيمية رحمه الله كثيراً من الصفات الحميدة، وقررها، فمنها:
أ - أنه يحب الله، ويحبه الله، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله...) (272).
ب - أثبت له صفة الزهد بقوله: (وأما زهد علي رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه) (273).
جـ - أثبت له صفة الصدق بقوله: (نحن نعلم أن علياً كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب) (274).
7 - جواز الدعاء له بالصلاة عليه؛ وذلك لدخوله في آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل هو أفضلهم، فدخوله من باب أولى حين الصلاة على محمد وآله في قولنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...).
وأما الصلاة عليه منفرداً: فإن كان لا على سبيل الدوام والاستمرار فهذا جائز على الصحيح.
وأما إن كانت الصلاة عليه بحيث يجعل ذلك شعاراً مقروناً باسمه، مضاهاة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا لا يجوز وهو بدعة، سواء كان المصلى عليه علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه أو كان غيره من الصحابة أو القرابة (275).
ونجد من دعاء ابن تيمية رحمه الله له، أنه يعقب اسمه بقوله: (عليه السلام) مراراً (276).
8 - يدافع عنه ابن تيمية رحمه الله وينصفه من خصومه، ويعتقد أن سبه ولعنه من البغي الذي تستحق به الطائفة التي تلعنه، أو تسبه أن يقال لها: الطائفة الباغية(277) ثم ذكر حديث أبي سعيد (ت - 74هـ) رضي الله عنه فقال حين ذكر بناء مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» (278).
وفي حديث آخر أن عماراً حين جعل يحفر الخندق جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح رأسه ويقول: «بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية» (279).
قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة علي، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار..) (280).
9 - أنه أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنهما فيما حصل بينهما، مع أن كلا الطائفتين معها بعض الحق، فبعد ذكره حديث أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تمرق مارقة عند فُرقةٍ من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق »(281) . قال: (وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق)(282) .
وقال رحمه الله: (ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية، وأصحابه، وقاتل طلحة والزبير، لقيل له: علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه، فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين، وهو ظالم لهم) (283).
وقال - أيضاً -: (ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث: أن علياً أولى بالحق، وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي لما جاء من حديث عمار، جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل)(284) .
10 - وأما عن تخصيص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه بعلم من علم الغيب، فليس بصحيح، فكل ما ينقل عنه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خصه بعلم الباطن فهذا كذب عليه، كيف وقد قال الله عزّ وجل: { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] ، وقوله: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59] .
يقول ابن تيمية رحمه الله بعد أن بين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس له علم خاص باطن يخص به أحداً، بخلاف ما يظهره لعامة الناس: (وكل من كان عارفاً بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب، مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي أنه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر)(285) .
ثم قال: (وقد أجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق)(286) .
وقال رحمه الله: (وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل...، وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غُسل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأورثه علم الأولين والآخرين، من أقبح الكذب البارد، فإن شرب غُسل الميت ليس بمشروع، ولا شرب علي شيئاً، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من حضر، ولم يرو هذا عن أحد من أهل العلم، وكذلك ما يذكر أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما: فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية)(287) .
وقد قال علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عهد إليّ النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئاً لم يعهده إلى الناس، إلا ما في هذه الصحيفة، - وكان فيها العقل (288) ، وفكاك الأسرى، وأن لا يقتل مسلم بكافر -، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في الكتاب)(289).
وفي الجملة: فثناء ابن تيمية رحمه الله على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه مبثوث في كتبه، قد أقره معترفاً به، مستدلاً على ذلك بنصوص الكتاب والسنة، يقول رحمه الله: (وعلي رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة، وفضائله العديدة)(290) .
وقال: (وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبة، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبه، وكارهون لذلك)(291) .
ومع كل هذا الثناء، والاعتراف بقدره، وموافقة أهل السنة في عقيدتهم فيه، إلا أن المناوئين لابن تيمية رحمه الله يتهمونه بأنه يبغض علياً، وأنه ينتقص حقه، ويخفي فضائله، وحال المناوئين معه كما قال الشاعر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد *** وينكر الفم طعم الماء من سقم(292)
وابن تيمية رحمه الله وإن كان قد أثنى على علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا أنه لم يغل فيه، ولم يغمطه حقه، بل كان وسطاً، ففي مناقشاته للرافضة يحاول كثيراً إقناعهم بالمنهج الوسط ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك ببيان فضائل الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه وخصائصهم، وأنهم أفضل منه، لأن الرافضة لا يثنون على علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا وينتقصون الخلفاء الثلاثة قبله، فكل فضيلة تثبت له، يقابلها توهين وتحقير وتنقيص لفضائل الثلاثة قبله، ويظن الرافضة - أيضاً - أن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه إذا كان أفضل آل البيت فمعناه أنه أفضل الأمة، وأنهم إذا سمعوا فضيلة له ظنوا أنها لا تكون إلا لأفضل الأمة، ثم يزيدون في فضائله آثاراً كاذبة، ونصوصاً مختلقة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وليس إذا كان علي أفضل أهل البيت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجب أن يكون أفضل الناس بعده)(293) .
ويقول: (والرافضة لفرط جهلهم، وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء، فإذا سمعوا مثل هذا عن علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق)(294) .
ثم إن الرافضة ومن وافقهم - أيضاً لفرط جهلهم - لا يفرقون بين الخصائص والمناقب، فهم يظنون أن كل منقبة وفضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إنما هي من خصائصه بالضرورة، وهذا خطأ ظاهر ينبه عليه ابن تيمية رحمه الله كثيراً بأن هذه الصفة ليست من خصائصه، من باب بيان الحق، وعدم تنقيص بقية الصحابة الذين يشركونه في هذه الصفة، فيظن المخالف أن شيخ الإسلام رحمه الله ينتقص من علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وابن تيمية رحمه الله لم ينتقص علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة، بل عمله هذا دليل على عدم انتقاص أحد من الصحابة في مقام الثناء على أحد غيره، ولعلّي أذكر بعض الأمثلة على هذه القاعدة - أي التفريق بين الخصائص والمناقب - حتى تتضح الرؤية أكثر:
أ - أن استخلافه على المدينة في غزوة تبوك ليس من خصائصه، بل هو من فضائله، ولم يكن استخلافه على المدينة في غزوة تبوك، لأجل أن المتخلف عن الغزوة أفضل من غيرهم، أو أكثر من غيرهم من المتخلفين في الغزوات الأخرى.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما استخلافه لعليّ على المدينة، فذلك ليس من خصائصه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلاً من أصحابه، كما استخلف ابن أم مكتوم(295) تارة، وعثمان بن عفان تارة)(296) وذكر أمثلة متعددة لاستخلاف النبي صلّى الله عليه وسلّم أفراداً من الصحابة على المدينة في أسفاره وغزواته ثم قال: (واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره، بل كان يكون في المدينة في كل غزوة من الغزوات من المهاجرين والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك، فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأحد بالتخلف فيها، فلم يتخلف فيها إلا منافق، أو معذور، أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم...)(297) .
وقال: (وبالجملة فالاستخلاف على المدينة ليست من خصائصه، ولا تدل على الأفضلية، ولا على الإمامة، بل قد استخلف عدداً غيره، ولكن هؤلاء جهال ويجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي وغيره خاصة بعلي)(298) .
فشيخ الإسلام رحمه الله لم ينكر كونها منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه لكنه يرد غلو الرافضة في حبه في مقابل تنقص غيره من الصحابة، فهو يثبتها فضيلة، لكنه دفاعاً عن بقية الصحابة لا يجعلها خاصية له دون غيره.
ب - أن ربط الإيمان بحبه، وربط النفاق ببغضه ليس من خصائصه، بل هو من فضائله، فقد رُبطا بغيره - أيضاً -، ولهما - أي الإيمان والنفاق - علامات وأسباب أخرى.
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»(299) .
يقول ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره بعض فضائل علي، ومنها هذه الفضيلة: (فهذه الأمور ليست من خصائص علي، لكنها من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته، واشتهر رواية أهل السنة لها، ليدفعوا بها قدح من قدح في علي، وجعلوه كافراً أو ظالماً، من الخوارج وغيرهم)(300) .
جـ - أن القول بأنه أشجع الناس، أو أن من خصائصه أنه لم ينهزم قط، فهذا ليس بصحيح، فإن أشجع الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما في الصحيحين عن أنس (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو يقول: «لم تراعوا»(301) .
وعن علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه)(302) ،
ثم استعرض شيخ الإسلام رحمه الله شجاعة الخلفاء الثلاثة قبله، وشجاعة غيره من الصحابة بعد أن بين أن الشجاعة تفسر بشيئين:
(أحدهما: قوة القلب وثباته عند المخاوف، والثاني: شدة القتال بالبدن...)(303) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله عن تخصيصه بأنه لم يهزم: (هو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فالقول في أنه ما انهزم، كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط، ولم يعرف لأحد من هؤلاء هزيمة) (304).
د - أن الصدق، والإيمان بالله ورسوله ليس من خصائصه، بل هو في عداد الصادقين، والمؤمنين بالله ورسوله، وإن كان من أفضلهم لكن ليس من خصائصه هاتان الصفتان (305).
هـ - أن محبته لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومحبة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم له ليس من خصائصه، بل من فضائله ومناقبه؛ لأنه يشركه فيها غيره من الصحابة، وقد يفوقه بعضهم بهذه الصفة، قال ابن تيمية رحمه الله في كلام عادل له، ومنصف للخلفاء الأربعة جميعاً عن هذه الصفة في مقام الرد على الرافضة: (وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله، ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور، وعمل مبرور، وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون)(306) .
وفي الجملة فإن الشيعة يجعلون كل فضيلة لعلي خاصية له، وهذا معلوم بطلانه وخطؤه ببديهة العقل، ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: (وهكذا الأمر مع الشيعة: يجعلون الأمور المشتركة بين علي وغيره التي تعمه وغيره، مختصة به، حتى رتبوا عليه ما يختص به من العصمة والإمامة والأفضلية وهذا كله منتفٍ) (207).
هذه نماذج مختصرة في بيان فضائل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ومناقبه، التي يشترك معه فيها غيره من الصحابة رضي الله عنهم قد بينها ابن تيمية رحمه الله مثنياً بها على الجميع، ومحباً لجميع الصحابة في إثبات هذه الفضائل لهم، لكن الرافضة لما كان من منهجهم أنهم لا يثبتون منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا ويتبعونها بالغمز واللمز على غيره من الصحابة، سواء كانوا أفضل منه أو أقل منه في مرتبة الفضل، قابلهم ابن تيمية رحمه الله في مقام المناظرة لهم بأن لا يذكر فضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا ويذكر من شاركه من الصحابه فيها، ويركز على الخلفاء الراشدين الثلاثة قبله، مبيناً فضلهم، ومنزلتهم، وأنهم أحق بهذه الصفات والمناقب منه، فصفاتهم أكمل من صفاته، وإن كان هو أفضل من بقية الصحابة من غير الخلفاء الثلاثة قبله، فما من صفة ذم يذم بها الرافضة الخلفاء الراشدين الثلاثة، إلا ويلزمهم ابن تيمية رحمه الله بأن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أولى بالذم منهم، وما من صفة مدح من الرافضة له، إلا والثلاثة قبله أولى بالمدح منه، ويلاحظ أن ابن تيمية رحمه الله لم يذم علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه قط، لكن الرافضة يظنون أن بيان ابن تيمية رحمه الله مشاركة الصحابة علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في بعض الصفات هو من باب الذم له، إلا أن ابن تيمية رحمه الله بين أن الرافضة هم الذين يذمون علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في مواضع يظنون أنهم يمدحونه ويثنون عليه فيها، أو أنهم في المقابل يغلون في حبه، ويفرطون في ذلك(308) .
ومن الأمثلة على مقابلة ابن تيمية رحمه الله مدح الرافضة علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه بمدح الخلفاء الثلاثة، وذم الرافضة الخلفاء الثلاثة بأن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أولى بالذم - من باب الإلزام في المناظرة - ما يلي:
قال رحمه الله: (من العجب أن الرافضة تنكر سب علي، وهم يسبون أبا بكر وعمر وعثمان، ويكفرونهم ومن والاهم.
ومعاوية رضي الله عنه وأصحابه ما كانوا يكفرون علياً، وإنما يكفره الخوارج المارقون، والرافضة شر منهم، فلو أنكرت الخوارج السب لكان تناقضاً منها، فكيف إذا أنكرته الرافضة؟
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة: لا علي ولا عثمان ولا غيرهما، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثماً ممن سب علياً...)(309) .
وقال رحمه الله: (وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب(310) كفر، ليكفروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير علي، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهم دائماً يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفرونهم بأمور قد صدر من علي ما هو مثلها، أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أولى بالأجر والعذر)(311) .
وبيّن رحمه الله وسطيته في موقفه من الصحابة بين الخوارج والرافضة فقال: (وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج، مع ظهور هذه الشبهة(312) ، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى.
وإن جاز أن يظن بأبي بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل، مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك، فالظن بمن قاتل على الولاية - ولم يحصل مقصوده - أولى وأحرى... فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصداً للحق والدين، وغير مريد علواً في الأرض ولا فساداً، فظن ذلك بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وأحرى..
أما أن يقال: إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد، وعلي لم يكن يريد علواً في الأرض ولا فساداً، مع ظهور السيرتين، فهذا مكابرة، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك..)(313) .
وفي الجملة فإن محبة ابن تيمية رحمه الله صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآل بيته، وعلي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنهم ظاهرة معلومة، وواضحة لمن قرأ كتب شيخ الإسلام بإنصاف، وطلبٍ للحق، ولكنه الهوى يُعمي ويُصم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23] .

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).
 



دعوى تخطئة شيخ الإسلام للصحابة رضي الله عنهم



دعوى تخطئة شيخ الإسلام للصحابة رضي الله عنهم
د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

المبحث الأول
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة
الصاحب : مشتق من الصحبة، وهو اسم فاعل من صحب يصحب، والجمع: أصحاب، وأصاحيب، وصحب، وصحاب، وصحبة، وصحبان، وأما لفظ الصحابة فهو في الأصل مصدر ثم صارت جمعاً مفرده صاحب، ولم يجمع فاعل على فَعَالة إلا هذا.
ومعاني الصحبة في اللغة تدور حول: الملازمة، والانقياد (1).
وأما تعريف الصحابي اصطلاحاً: فأصح التعريفات: تعريف المحدثين (2)، وقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً.
ومن ذلك قول ابن المديني (ت - 234هـ) رحمه الله: (من صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم) (3).
ومن ذلك قول الإمام البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (من صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه) (4).
وأصح التعريفات عند المحدثين هو حد الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) قال رحمه الله: (الصحابي من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به ومات على الإسلام) (5).
ويشرح التعريف، ويذكر محترزاته بأنه يدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه، أو لم يرو عنه، ومن غزا معه، أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعارض كالعمى (6).
ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى.
ويخرج بلفظة (به): من لقيه مؤمنا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.
وأما ورقة بن نوفل فقد لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به بعد بعثته، فلا يصح أن يمثل به على أنه مؤمن بغير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه مات على ذلك.
وأما اشتراط الموت على الإسلام: فيخرج به من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمنا به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله، كعبد الله بن جحش، وربيعة بن أمية الجمحي، وابن خطل (7).
وأما من آمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم ارتد ثم آمن ولقيه في حياته فهذا صحابي اتفاقاً كعبد الله بن سعد بن أبي السرح (8)، وإن عاد من ردته إلى الإسلام في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، أو بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم كقرة بن هبيرة (9)، والأشعث بن قيس (10)، فهو صحابي على الصحيح (11).
وتعرف صحبة الصحابي بأحد أمور أربعة: إما بالتواتر على أنه صحابي كأبي بكر (ت - 13هـ) وعمر (ت - 23هـ) وبقية العشرة.
وإما بالاستفاضة والشهرة: وهذه منزلة أقل من الأولى.
وإما أن يثبت أحد الصحابة لآخر الصحبة، فتثبت له بشهادة صحابي آخر.
وإما بإخباره عن نفسه بأنه صحابي. إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة، فالصحابة كلهم عدول، ولذا قال الحافظ العراقي (12) في ألفيته:
وتعرف الصحبة باشتهار أو *** تواتر أو قول صاحب ولو
قد ادعاها وهو عدل قبلا *** وهم عدول وقيل لا من دخلا (13)
وقد أثنى الله عزّ وجل على الصحابة الكرام، فتارة يثنى على السابقين منهم، وتارة يثني على الذين جاهدوا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتارة يثني عليهم بمجموعهم.
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وقال - سبحانه -: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] .
وقال: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29] .
وقال عزّ وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] .
وقال: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد: 10] .
ومن فضلهم في السنة ما حدث به أبو سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه - عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: قال: «يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟، فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم» (14).
وقال عليه الصلاة والسلام: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (15).
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد» (16).
وأما ذكر فضل الصحابة في كلام السلف فكثير أذكر منه أمثلة: كقول الإمام الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله: (قد أثنى الله - تبارك وتعالى - على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الفضائل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاماً وخاصاً، وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا...) (17).
وقال ابن أبي حاتم (ت - 327هـ) رحمه الله: (أما أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة: فحفظوا عنه صلّى الله عليه وسلّم ما بلغهم عن الله - عز وجل - وما سن وشرع، وحكم وقضى، وندب وأمر، ونهى وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهية، ومراده بمعاينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرفهم الله - عز وجل - بما من عليهم، وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب، والغلط والريبة والغمز) (18).
وقال ابن أبي زيد القيرواني (19): (وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآمنوا به، ثم الذين يلونهم) (20).
وبعد إثبات فضل الصحابة - رضوان الله عليهم - على غيرهم، تبقى مسألة وهي: هل الصحابة يتفاضلون فيما بينهم، أم أنهم في منزلة سواء؟.
الصحيح: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - يتفاضلون بينهم كغيرهم من سائر الخليقة، وأنهم ليسوا على درجة واحدة (21).
ودليل هذا التفاضل ما ثبت في كتاب الله عزّ وجل من التفريق بين الصحابة الذين آمنوا قبل الفتح، وبين الصحابة الذين آمنوا بعدهم، فأثبت أن الأوائل أعظم درجة عند الله، وإن كانوا جميعاً لهم فضل وأجر الصحبة، كما قال عزّ وجل: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10] .
وأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه ثم عمر الفاروق (ت - 23هـ) رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه ثم علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه وترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة على قول جمهور الصحابة، والمخالف للجمهور يرى أفضلية علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه على عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه لا أحقيته بالخلافة؛ لأن ترتيب الخلافة مما لا يعلم فيه مخالف من أهل السنة والجماعة.
ومما يدل على أفضلية أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه ما جاء عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وقال: «إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله» ، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي، لا تخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا بابُ أبي بكر» (22).
وأما أفضلية عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فيدل عليها قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتني دخلت الجنة، فإذا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة (23) فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال (24)، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك» ، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار (25).
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون (26)، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» (27).
وأما أدلة تفضيل عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكثيرة منها: ما رواه عبد الله بن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: (كنا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم) (28).
وعن أبي موسى الأشعري (ت - 42هـ) رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم حائطاً، وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» ، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: «ائذن له وبشره بالجنة » فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة ثم قال: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه» فإذا عثمان بن عفان) (29).
وأما فضائل علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه فكثيرة، ومما ورد في فضله من أحاديث: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» (30).
وقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (31).
وقد تواترت النصوص عن أئمة أهل السنة والجماعة في بيان أفضلية الخلفاء الأربعة على غيرهم من الصحابة، وأن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، وقد جعلوا ذلك ديناً يدينون الله به، وجزءاً من معتقدهم، فأثبتوه في عقائدهم، ولعلي أستشهد ببعض قولهم للتمثيل على هذه القاعدة المهمة في معتقد أهل السنة في الصحابة الكرام:
فقد قال الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (أفضل أصحابه صلّى الله عليه وسلّم الصديق أبو بكر رضي الله عنه، ثم الفاروق - بعده - عمر، ثم ذو النورين عثمان بن عفان، ثم أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين -) (32).
وقال الإسماعيلي (ت - 371هـ) رحمه الله: (ويثبتون خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باختيار الصحابة إياه، ثم خلافة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه باستخلاف أبي بكر إياه.
ثم خلافة عثمان رضي الله عنه باجتماع أهل الشورى وسائر المسلمين عليه عن أمر عمر، ثم خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببيعته من بايع من البدريين عمار بن ياسر (33)، وسهل بن حنيف (34)، ومن تبعهما من سائر الصحابة، مع سابقته وفضله) (35).
وقال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (ومن قول أهل السنة أن أفضل هذه الأمة بعد نبينا صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر، وأفضل الناس بعدهما عثمان وعلي) (36).
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم الخلفاء الراشدون) (37).
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله: (ونعتقد أن خير هذه الأمة، وأفضلها بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار: أبو بكر الصديق، ووزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته عبد الله بن عثمان بن عتيق بن أبي قحافة، ثم بعده الفاروق، أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وأظهر الدين، ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان الذي جمع القرآن، وأظهر العدل والإحسان، ثم ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختنه علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين - فهؤلاء الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون) (38).
وأخيراً أذكر قول ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله : (وأصحابه خير أصحاب الأنبياء - عليهم السلام -، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم أجمعين -) (39).

وقد اختلف أهل العلم في عدد طبقات الصحابة وأيها أفضل (40)؟، والصحيح أنهم على اثنتي عشرة طبقة وهم:
الطبقة الأولى : من أسلم بمكة متقدماً كالخلفاء الراشدين وغيرهم رضي الله عنهم -.
الطبقة الثانية : أصحاب دار الندوة.
الطبقة الثالثة : الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة.
الطبقة الرابعة : الذين بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة الأولى، يقال: فلان عَقَبي.
الطبقة الخامسة : أصحاب العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
الطبقة السادسة : أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بقباء، قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد.
الطبقة السابعة : أهل بدر، الذين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (41).
الطبقة الثامنة : المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
الطبقة التاسعة : أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح: 18] .
الطبقة العاشرة : المهاجرة بين الحديبية والفتح كخالد بن الوليد (42)، وعمرو بن العاص (43) وغيرهما.
الطبقة الحادية عشرة : الذين أسلموا يوم الفتح، وهم جماعة من قريش.
الطبقة الثانية عشرة : صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح، وفي حجة الوداع وغيرها، وعدادهم في الصحابة (44).
ونشهد لمن شهد له الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، كالخلفاء الأربعة الراشدين، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وهم طلحة بن عبيد الله (45)، والزبير بن العوام (46)، وسعد بن أبي وقاص (47)، وسعيد بن زيد (48)، وعبد الرحمن بن عوف (49)، وأبو عبيدة بن الجراح (50)رضوان الله عليهم أجمعين -.
وقد شهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لغير العشرة مثل ثابت بن قيس بن شماس (51)،
وعبد الله بن سلام (52)، وغيرهما كثير من الصحابة من الرجال والنساء (53).
وفي الجملة فإن معتقد أهل السنة في هذا، ما ذكره الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله قوله: (كل من شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة شهدنا له، ولا نشهد لأحد غيرهم، بل نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، ونكل علم الخلق إلى خالقهم) (54).
وهكذا قال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله بعد أن ذكر العشرة المبشرين بالجنة (55).
ومن الإيمان بصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وجوب محبتهم، ودوام الدعاء لهم، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» (56).
وقال عليه الصلاة والسلام في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (57).
قال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (ومن قول أهل السنة أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينشر محاسنهم وفضائلهم) (58).
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (من أحبهم وتولاهم ودعا لهم، ورعى حقهم، وعرف فضلهم فاز في الفائزين) (59).
وقال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله: (ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم) (60).
ومن الإيمان والسنة: الإيمان والإقرار بعد التهم: وعدالة الصحابة ثابتة بالكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وإجماع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله عزّ وجل: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] ، ومعنى وسطا: أي عدولاً، كما قال: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [القلم: 28] ، أي اعدلهم. ويشهد لذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من شهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً»، فذلك قوله جل ذكره: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] ، والوسط العدل) (61).
وقال صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع للصحابة: «.. ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب » (62)، وهذا فيه دلالة على عدالة الصحابة، كما قال ابن حبان (ت - 354هـ) رحمه الله: (وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب» أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألا ليبلغ فلان منكم الغائب، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرفاً) (63).
وأما الإجماع على عدالة الصحابة فقد حكاه غير واحد من أهل العلم:
فقد قال ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله: (ونحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول) (64).
وقال ابن الصلاح (ت - 642هـ) رحمه الله: (للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يُسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة) (65).
ثم قال: (إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، فكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك؛ لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم) (66).
وهكذا قال ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) ، والسخاوي (ت - 902هـ) - رحمهما الله - (67)، وغيرهما.
ومن السنة والإيمان بصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عدم سبهم وتنقصهم، والتعرض لأعراضهم بسوء وقدح، وعدم الخوض فيما وقع بين الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -.
يقول الله عزّ وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
وهم داخلون من باب أولى في الوعيد العام على من آذى المؤمنين، وفي النهي عن الغيبة، في قول الله عزّ وجل: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } [الأحزاب: 58] ، وقال سبحانه: { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات: 12] .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (68).
وقال عليه الصلاة والسلام: «دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسى بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهباً، أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم» (69).
وقال عليه الصلاة والسلام: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (70).
وهم داخلون في الوعيد العام على سباب المسلمين، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (71).
وسأورد نماذج من كلام السلف، وأهل العلم يبين تحريم سب الصحابة، ووجوب الإمساك عما شجر بينهم، وإن كان فيها شيء من الطول والكثرة، وذلك لكي يتضح منها منهج أهل السنة والجماعة في الموقف مما شجر بين الصحابة - رضوان الله عليهم -، وليتقرر إطباق علماء الأمة المعتبرين قاطبة على وجوب حفظ اللسان تجاه الصحابة، وأن لا يذكروا إلا بخير:
فقال عمر بن عبد العزيز (ت - 101هـ) رحمه الله: (تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر منها لساني، مثل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها) (72).
وقال الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله: (من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ قول الله سبحانه وتعالى: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } [الحشر: 7 - 10] ، وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ مالك هذه الآية: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } إلى قوله: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29] ، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته الآية) (73).
وسئل الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: (ما أقول فيهم إلا الحسنى) (74).
وقال البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله: (اعلم أنه من تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعلم أنه إنما أراد محمداً صلّى الله عليه وسلّم، وقد آذاه في قبره)(75) .
وقال ابن أبي زيد القيرواني (ت - 386هـ) رحمه الله: (وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب)(76) .
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (من أبغضهم وسبهم، ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض والخوارج - لعنهم الله - فقد هلك في الهالكين.. ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم، ونقصاً فيهم) (77).
وقد انتقد ابن الصلاح (ت - 642هـ) رحمه الله ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله إيراده ما شجر بين الصحابة، فحين أثنى على كتابه (الاستيعاب) قال بعد ذلك: (لولا ما شانه به من إيراده كثيراً مما شجر بين الصحابة)(78) .
وقال الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله: (تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين -، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا: فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه، لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة، وآحاد العلماء)(79) .
ثم جعل شروطاً لجواز الاطلاع على هذه الأمور، والبحث فيها بقوله: (وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوةً: للعالم المنصف، العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله - تعالى - حيث يقول { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا } [الحشر: 10] ، فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محّاء، وعبادة ممحصة)(80) .
ومن الإيمان بالصحابة: الإقرار بمنزلة أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأن لهم مكانة خاصة بحكم قربهم منه صلّى الله عليه وسلّم(81) .
ومما ورد فيهم في كتاب الله قوله عزّ وجل: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6] ، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ، وقال عزّ وجل: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 28 - 32] .
ومن السنة قول المصطفى الكريم صلوات ربي وسلامه عليه حين قام خطيباً: «أما بعد: ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»(82) .
وقد أمرنا بالصلاة عليهم في كل صلاة، وصيغتها ما ذكره الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»(83) .
وقد كان أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه أعرف الناس بمنزلة أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقد حث على إرضائهم، والقرب منهم، وعدم إيذائهم وسبهم بقوله: (ارقبوا محمداً صلّى الله عليه وسلّم في أهل بيته)(84) .
وقوله: (والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إلي أن أصل من قرابتي) (85).
وفضائلهم كثيرة متعددة: سواء كان الفضل العام لهم جميعاً، أو فضائلهم بأشخاصهم وأعيانهم مما لا يتسع المقام لذكره (86).
 
المبحث الثاني
دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم
الأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

المطلب الأول
دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة
يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله: أن ابن تيمية رحمه الله يبغض الصحابة جميعاً بما فيهم الخلفاء الراشدون الأربعة وإن كان يستتر - أحياناً - بحبهم ويتظاهر بذلك.
فيقولون: إن قلمه لم يسلم منه حتى الصحابة(87) .
ويقولون إنه (اشتهر عنه تخطئة الناس جميعاً، حتى إمامه أحمد بن حنبل، بل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي)(88) .
ويرى الحصني (ت - 829هـ) أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبغض الشيخين (89).
ويقول: (مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والشيخين، وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه(90) وأنه من الملحدين..)(91).
وقال: (رمز إلى تكفير الصديق..)(92) .
ويرون أن ابن تيمية يرى أنا أبا بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه (أسلم شيخاً يدري ما يقول)(93) .
وأما عن موقفه من عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فإنهم يرون أنه يرمز إلى عدم الاعتداد بقوله (94).
وأما عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكان يحب المال، وأما علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فأسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه على قول(95) .

المطلب الثاني
مــنــاقــشــة الــدعــوى
يعتقد ابن تيمية رحمه الله في صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم، ولا عجب في ذلك؛ إذ هو أحد أبرز شُرّاح معتقد السلف فيعتقد رحمه الله وجوب الثناء على الصحابة - رضوان الله عليهم - بثناء القرآن الكريم والسنة النبوية عليهم، كما قال الله تعالى: { ُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29] ، وقال تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18] .
وقال عزّ وجل { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] ، وقال سبحانه: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وأما الأحاديث فيذكر ابن تيمية رحمه الله أنها مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون(96) كحديث: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، وحديث: «لا تسبوا أصحابي ...»(97) ، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة (98).
وحين ذكر ابن تيمية رحمه الله قول الله عزّ وجل: { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: 62 - 63] . قال: (وإنما أيده في حياته بالصحابة) (99).
وحين ذكر قول الله عزّ وجل: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35] . قال: (والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن حق: هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء)(100).
وحين ذكر قول الله عزّ وجل: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] . قال: (محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله)(101) .
ويعتقد ابن تيمية رحمه الله محبة الصحابة، وتوليهم، كما قال في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب *** ومودة القربى بها أتوسل(102)
وقال: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان يتولون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته، ويعرفون حقوق الصحابة، وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسوله)(103) .
وقد حكى رحمه الله اتفاق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة (104).
وقد أثنى رحمه الله على السابقين الأولين الذين منهم الخلفاء الأربعة، وبين أن الله أخبر أنه رضي عنهم، وأنه علم ما في قلوبهم، وأنه أثابهم فتحاً قريباً لقول الله عزّ وجل: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}[الفتح: 18 - 19] .
وبين رحمه الله منزلة السابقين الأولين بقوله: (لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم، لأن الله تعالى بيّن فضلهم في القرآن بقوله: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10] ، ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح)(105) .
وذكر أن قول الله عزّ وجل: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح: 4] ، نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده(106) .
وقال بعد ذلك: (ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله - تعالى -: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } [التوبة: 100] ، وهم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم)(107) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من سب الصحابة فيعتقد أنه حرام بالكتاب والسنة:
فمن الكتاب قول الله عزّ وجل: { وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: 12] ، وأدنى أحوال الساب أن يكون مغتاباً، وقال عزّ وجل: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [الأحزاب: 58] ، والصحابة خيار المؤمنين، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى - رضي عنهم - رضىً مطلقاً، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك(108) ، كما في قوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر: 27 - 30] .
واستدل رحمه الله من السنة بأحاديث منها: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (109).
وحديث: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار »(110) ، وغيرها من الأحاديث (111).
ويقسم ابن تيمية رحمه الله أنواع سب الصحابة وأحكامه تقسيماً جيداً: فمن اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي فهذا لا شك في كفره.
ومن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نفراً قليلاً فهذا لا ريب في كفره.
وأما من لعن وقبّح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد(112) ، واللعن أشد من السب وقارنه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقتل كما قال: «لعن المؤمن كقتله»(113).

وأما موقف ابن تيمية رحمه الله مما ورد في مساوئ الصحابة ومثالبهم فيمكن أن يفهم من مجموع كلامه أنه وضع قواعد ثابتة وسار عليها، ومن هذه القواعد:
القاعدة الأولى : أن ما يُذكر من المطاعن والمثالب على الصحابة نوعان:
الأول : منها ما هو كذب: إما كذب كله، وإما محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان والتغيير ما يخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى(114) ، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي(115) ، وأمثالهما من الكذابين.
الثاني : ومنها ما هو صدق، وهذا قليل، ولهم معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وقد أجاد شيخ الإسلام رحمه الله في بيان الاعتذار لهم بكلام نفيس أجتزئ منه قوله عنهم: (لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم...
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.. ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح..)(116) .
القاعدة الثانية : أن الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، والكلام في الصحابة من باب أولى، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ} [المائدة: 8] .
وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحق من عدل عليهم في القول والعمل، والعدل مما اتفق أهل الأرض على محبته ومدحه، والله أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط كما في قوله: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25] .
وقال: { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } [الشورى: 17] ، وقال: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [النساء: 58] .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل، ويرد ذلك إلى الله والرسول، فذاك في أمر الصحابة أظهر)(117).
القاعدة الثالثة : الإمساك عما شجر بين الصحابة، وعدم الخوض فيه، وهذا هو منهج السلف - رضوان الله عليهم - كما تقدم بيانه. ولابن تيمية رحمه الله كلام نفيس في توضيح هذه القاعدة، وبيان لوازم الخوض فيما شجر بين الصحابة فهو يوقع في قلوب الخائضين ومن تلقى عنهم ذلك بغض الصحابة الكرام، ويتضمن أذية هؤلاء المتشاجرين، فيقول مبتدئاً توضيح المسألة بكلام عام: (إذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاماً بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة) (118).
ثم قال: (لكن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا، وقد ثبت في فضائلهم خصوصاً وعموماً ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثماً من الكلام في غيرهم)(119) .
وقال: (المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة، والاستغفار للطائفتين جميعاً وموالاتهم) (120).
وقال رحمه الله بعد ذكره أقوال الناس فيما حصل بين الصحابة: (... الرابع: الإمساك عما شجر بينهم مطلقاً.. وهو مذهب أهل السنة والجماعة)(121) .
وقال رحمه الله: (ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم، وما وقع: منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً، فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً وذمّا، ويكون هو في ذلك مخطئاً بل عاصياً، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك.. ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف)(122) .
وبهذا بتبين موقفه رحمه الله من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكرام، فيعتقد محبتهم، وعدم سبهم، وعدم الخوض فيما شجر بينهم، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة؛ وسط بين طرفين. وهدى بين ضلالتين، فهم وسط في باب صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الغلو في محبتهم أو بعضهم، وبين التفريط في بغضهم أو بعضهم.
يقول رحمه الله في تقرير وسطية أهل السنة: (هم وسط في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهيةٍ، أو نبوةٍ، أو عصمةٍ، والجافي فيهم: الذي يكفر بعضهم، أو يفسقه، وهم خيار الأمة)(123) .
وأما عن ادعاء المناوئين لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض الشيخين، وأنه ينتقص من منزلة الخلفاء الأربعة فهذا غير صحيح، بل لا يوجد له نص واحد ينتقص فيه الصحابة - رضوان الله عليهم - فضلاً عن الخلفاء الأربعة، الذين يعتقد أنهم خيار الأمة، فبعد أن ذكر أن أفضل الأمم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن أفضل الأمة: القرن الأول، وأن أفضل القرن الأول: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، قال: (وأفضل السابقين الأولين: الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الأمة، وجماهيرها)(124) .
ويبين أن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة، فقال ابن تيمية رحمه الله في عرضه معتقد أهل السنة: (وأن الخلفاء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة) (125).
وقال رحمه الله: (أما تفضيل أبي بكر ثم عمر على عثمان وعلي فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم..) (126).
وسأستعرض بعض جوانب موقف ابن تيمية رحمه الله من الخلفاء الأربعة - كل على حده - مبتدئاً بأفضلهم، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ومؤخراً موقفه من الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلى المبحث الذي يليه؛ لأنه به ألصق حين الحديث عن آل البيت، وموقف ابن تيمية رحمه الله منهم.
أما أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه الذي يزعم المناوئون أن ابن تيمية يرمز إلى تكفيره، فقد كان له نصيب كبير في كتب ابن تيمية رحمه الله من الثناء عليه، والاعتراف بفضله، وذكر النصوص الدالة على تقديمه على جميع الصحابة - رضوان الله عليهم -، موافقاً بذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وهو كثيراً ما يذكر رحمه الله أن أكثر فضائل أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه تعد من خصائصه التي لا يشركه أحد غيره، فيقول: (... ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره)(127) .

ويمكن أن أجمع موقفه من خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرتبه في النقاط التالية:
1 - أنه أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذاً لا تخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله»(128) .
وقيل للرسول صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها»(129) .
وثبت عن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أنه قال عنه: (أنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)(130) .
يقول رحمه الله (إن أبا بكر كان أحب الصحابة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأفضل عنده من عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وكل من كان بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحواله أعلم كان بهذا أعرف، وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، فإما أن يصدق الكل، أو يتوقف في الكل)(131) .
2 - أنه أفضل الأمة على الإطلاق بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك قول عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه: (وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان خيرنا حين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)(132) .
3 - أن مصاحبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت أكمل من مصاحبة غيره، فهو أول من أسلم من الرجال، واستمر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل وقته لا يفارقه في حضر ولا سفر، وكان يستشيره النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحايين كثيرة، ويصحبه معه في المواقف الصعبة كصحبته في الهجرة، كما في حديث الغار المتقدم، وقد خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصحبة بقوله: «هل أنتم تاركون لي صاحبي، هل أنتم تاركون لي صاحبي، إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت»(133) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (الصديق في ذروة سنام الصحبة، وأعلى مراتبها، فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات)(134) .
ثم بيّن رحمه الله أنه لا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة، وذكر من سبب ذلك أنه كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً (135).
كما ثبت عن عائشة (ت - 57هـ) رضي الله عنها أنها قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيه طرفي النهار) (136).
4 - تبشير النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنة في خصالٍ اجتمعت فيه، ولم تجتمع في أحد من الصحابة؛ وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه، فقد ثبت عن المصطفى الكريم صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟»، فقال أبو بكر: أنا. قال: «فمن تبع منكم جنازة؟» . قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من عاد مريضاً؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من تصدق بصدقة؟». فقال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (137).
5 - أنه أعلم الصحابة - رضوان الله عليهم -، وهذا بإجماع الصحابة، ومن بعدهم، كما ثبت في الصحيح أن أبا سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: (وكان أبو بكر أعلمنا) (138).
وقد نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن أبا بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أعلم الصحابة، وأن أبا بكر كان يفتي ويقضي في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ساكت يقره على ذلك، ويرضى بما يقول، ولم تكن هذه المرتبة لغيره(139) ، ويقول: (أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة) (140).
6 - أنه أشجع الناس وأصبرهم حين تضعف عزائم الأقوياء، وحين يأتي وقت الشجاعة فأبو بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أشجع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليقين والإيمان اللذين وقرا في قلبه. ففي الصحيح أن عقبة بن معيط(141) جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه، وقال: ({أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [غافر: 28] ) (142).
وتتضح شجاعته رضي الله عنه أيضاً في حادثة فزع الصحابة بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وثباته، بل وتثبيته الصحابة، وفي إنفاذه جيش أسامه(143) ، وقتال المرتدين، وغيرها.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس، ولم يكن بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أشجع منه) (144).
وقال - أيضاً - (وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية، وهي قوة يقينية بالله - عز وجل -، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل لكل من كان قوي القلب، لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين، وتنقص بنقص ذلك)(145) .
7 - كثرة إنفاقه في سبيل الله وخاصة في بداية ظهور الإسلام في مكة، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» (146)، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»(147) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر: هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم»(148) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن الصديق كان أمن الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر، ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بالثمن» (149).
فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق) (150).
8 - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخصه بأمور هي دلائل على أنه يتبوأ منزلة خاصة، فهم منها كثير من أهل العلم أحقيته بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنها:
أ - طلب الكتابة بالعهد إليه بعده: فقد قال عليه الصلاة والسلام لعائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً..» ثم قال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»(151) .
ب - الإرشاد لمن طلب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحدد له رجلاً يأتيه إن لم يجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يأتي أبا بكر، ومن ذلك: أن أمرأة أتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ - كأنها تريد الموت -، قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»(152) .
جـ - استخلافه بالصلاة عنه في حياته، كما ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مرض واشتد مرضه قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس، فقال: «مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف»(153) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (بيّن صلّى الله عليه وسلّم أنه يريد أن يكتب كتاباً خوفاً، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه، والأمة حديثة عهد بنبيها، وهم خير أمة أخرجت للناس، وأفضل قرون هذه الأمة، فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي، فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم، أو لسوء القصد، وكلا الأمرين منتف، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون، ولهذا قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر الصديق واستحقاقه لهذا الأمر يغني عن العهد فلا يحتاج إليه، فتركه لعدم الحاجة، وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه، وهذا أبلغ من العهد) (154).
وأما فضائل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فكثيرة، فمنها ما هو مشترك مع غيره من الصحابة ككونه من السابقين الأولين، وكونه من العشرة المبشرين بالجنة، وغيرها.
ومنها ما هو مشترك مع أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنهما مثل: الأمر بالاقتداء بهما لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(155) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» (156) .
ومحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهما، فقد كان الصحابة كثيراً ما يسمعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر»(157) .
وقرن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إيمانه بإيمان أبي بكر (ت - 13هـ) ، وعمر (ت - 23هـ) رضي الله عنهما في بعض المواضع، فقال عليه الصلاة والسلام: «بينما راع يرعى في غنمه إذ عدا الذئب فأخذ منها شاة، فطلبها حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السَّبُع يوم لا راع لها غيري» ، فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر»(158) .
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينا رجل يسوق بقرة، قد حمَّل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا! ولكني إنما خلقت للحرث».
فقال الناس: سبحان الله! تعجباً وفزعاً - أبقرة تتكلم؟.
فقال: «فإني أومن بهذا وأبو بكر وعمر»(159) .
ومن فضائله: ما أفردت بحديث مستقل: فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه للنصوص المذكورة قبل قليل، ولغيرها.
وهو مُحدَّث ملهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قد كان في الأمم مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» (160).
وقد رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رؤى في عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أوّلهَا عليه الصلاة والسلام بالعلم، وبالدين، فقد قال نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم: «بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الرّي يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر بن الخطاب»، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال:«العلم»(161).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليّ وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك» ، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين» (162).
وقد جعل الله الحق على لسان عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه ووافق التنزيل مراراً، كما قال عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه عنه -: (وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] ، وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، قال: فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية)(163) .
وقد فرح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته معه بإسلام عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه حين أسلم، واعتز الإسلام بإسلامه، كما قال ابن مسعود (ت - 32هـ) رضي الله عنه: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر)(164) .
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بعض صفات الفاروق - من غير ما ذُكر -، فمنها:
خوفه من الله عزّ وجل وذكر أحاديث في ذلك(165) ، منها ما وراه المسور بن مخرمة(166) رضي الله عنه قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك: لقد صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، فقال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضاه، فإنما ذاك مَنُّ منَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذاك مَنٌ من الله مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع(167) الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه)(168) .
ومنها: أنه وقّاف عند حدود الله عزّ وجل ودليل ذلك: أن رجلاً دخل عليه وقال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر(169) : يا أمير المؤمنين؛ إن الله - تعالى - قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199] ، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله)(170) .
ومنها: عدله رضي الله عنه يقول ابن تيمية رحمه الله عن ذلك: (وبعدل عمر يضرب المثل)(171) ، ويقول: (ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقاً وغرباً.. ومع هذا فكلهم يصفون عدله، وزهده، وسياسته، ويعظمونه، والأمة قرناً بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته، ولا يُعرف أن أحداً طعن في ذلك)(172) .
وهذه الصفات وغيرها نماذج من سيرة ثاني الخلفاء الراشدين التي يقول عنها ابن تيمية رحمه الله (لا يُعرف في سير الناس كسيرته)(173) ، ومناقبه كثيرة، أطال في ذكرها ابن تيمية رحمه الله موثقاً ذلك بالآثار الثابتة الصحيحة التي يقول عنها: (وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب، ليست من أحاديث الكذابين، والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جداً)(174) .
وأما فضائل عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكثيرة أيضاً، وموقف ابن تيمية رحمه الله منها موقف المؤيد، بل والمقرر لها، والموضح، والشارح: فمن فضائله الواردة في النصوص: ما هو مشترك يدخل فيها معه غيره من الصحابة، سواء أكانوا قلة أم كثرة: كتبشيره بالجنة، وكونه من السابقين الأولين للإسلام، ومن النصوص ما يدل على أنه أفضل الأمة بعد الشيخين، وذلك لحديث ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: (كنا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم) (175).
قال ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله: (لم يكن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأرض أفضل من أبي بكر، ولم يكن بعده أفضل من عمر، ولم يكن بعده أفضل من عثمان، ولم يكن بعد عثمان على الأرض خير ولا أفضل من علي)(176) .
ومن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوجه ابنتيه، ولذلك أطلق عليه لقب (ذو النورين)(177) .
ومن فضائله - أيضاً - مبايعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه يوم بيعة الرضوان، فقد أراد رجل أن يطعن في عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه على أنه لم يحضر بيعة الرضوان، فأجابه ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما بأن بيعة الرضوان إنما كانت بسبب عثمان، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى مكة، وبايع عنه بيدِه، ويد النبي صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان(178) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيباً ما كان منه عيباً فقد عفا الله عنه، والباقي ليس بعيب، بل هو من الحسنات، وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة، هو إما حسنة، وإما معفو عنه)(179) .
ومنها: كثرة إنفاقه في سبيل الله، ويظهر ذلك جلياً حين جهز جيش العسرة، حتى جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك من الأسباب الماحية للذنوب، الموجبة لدخول الجنة، وحين حوصر عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أشرف على من حاصره وقال لهم: (أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفر رومة فله الجنة» فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزته، قال: «فصدقوه بما قال»(180) .
ومنها: حياؤه رضي الله عنه، فقد استأذن رضي الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضطجع على فراش عائشة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصلح عليه ثيابه، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك» فأذن له، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا عائشة إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلى حاجته» (181) .
ومنها: صبره حين الفتن، وكفه عمّن قاتله، كل هذا مع اتفاق الصحابة - رضوان الله عليهم - على بيعته، فلم يكن هناك اختلاف في توليته، بل ولاه المسلمون بعد المشورة ثلاثة أيام، وهم مؤتلفون، متفقون، متحابون، متوادون، ولم يعدلوا بعثمان غيره، يقول الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: (ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم)(182) ، ومع ذلك ابتلي رضي الله عنه بعد توليته كثيراً فصبر، وهذا من دلائل نبوة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم حين أخبر أنه من أهل الجنة على بلوى تصيبه، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ومن المعلوم المتواتر أن عثمان كان أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه، وسعوا في قتله، وقد عَرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه، ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم.. فكان صبر عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين)(183) .
وفي الجملة: فإن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه كثيرة، قد أقرّ بها ابن تيمية رحمه الله ويذكرها وقت الحاجة إلى ذكرها، سواء أكانت مفرقة أم مجتمعة، فيقول في كلام عام عن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه: (والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم له، وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه، وشهادته له بالجنة، وإرساله إلى مكة، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات وهو عنه راض، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه)(184) .
وأما موقفه من ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما فهو: الثناء عليه؛ للثناء العام على الصحابة - جميعاً -، ولثناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليه، ودعائه له بالفقه في الدين، ومعرفة التأويل، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ابن عباس هو حبر الأمة، وأعلم الصحابة في زمانه..، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»(185) ) (186).
وبعد هذا تبين لنا موقف ابن تيمية رحمه الله من الصحابة - جميعاً - وعقيدته فيهم، فهو يعتقد وجوب الثناء على الصحابة - جميعاً -، وأنهم أفضل الأمة، وقد حكى اتفاق أهل السنة على رعاية حقوق الصحابة، ويعتقد تحريم سب الصحابة، ووجوب الكف عن الخوض في مساوئ الصحابة، وفيما شجر بينهم.
ثم تبين لنا أن ابن تيمية يعتقد أن أفضل الأمة: الخلفاء الأربعة، وأن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، ويعتقد أن لكلٍ فضلاً ومناقب، وإذا تبين ذلك عنه: فلا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتهم ابن تيمية رحمه الله بأنه ببغض الصحابة أو أحدهم، فضلاً عن تكفير الصحابة، أو أحدهم، أو أفضلهم.

وقبل ختام هذا المبحث: يحسن بي أن أتوقف قليلاً لأبين ما يعتقده ابن تيمية رحمه الله باختصار في معاوية بن أبي سفيان (ت - 60هـ) رضي الله عنهما خاصة، ذلك أن بعض الطوائف والأشخاص يكفرونه، وبعضهم يبغضه ويلعنه(187) .
وابن تيمية يعتقد فيه أنه صحابي، أسلم عام الفتح، وإيمانه ثابت بالنقل المتواتر، وإسلامه يجب ما قبله من الذنوب، وأن سيرته خير وعدل، وأنه أفضل ملوك المسلمين - فرضي الله عنه وأرضاه -، يقول ابن تيمية رحمه الله: (إيمان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر، وإجماع أهل العلم على ذلك، كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة) (188).
وينقل ابن تيمية رحمه الله ثناء ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما عليه، والشهادة له بالفقه، فقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ إنه أوتر بركعة؟ قال: (أصاب إنه فقيه)(189) .
يقول ابن تيمية بعد ذلك: (فهذه شهادة الصحابة بفقهه، ودينه، والشاهد بالفقه ابن عباس) (190).
ويذكر رحمه الله أنه خير ملوك المسلمين، وأن سيرته في رعيته من خيار سير الولاة بقوله: (فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده)(191) ، وحكى اتفاق العلماء على أنه أفضل ملوك هذه الأمة (192).
 
( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. )


دعوى ان ابن تيمية يبغض الأنبياء والصالحين وإهانته لهم


                        دعوى بغضه للأنبياء والصالحين وإهانته لهم


د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

المبحث الرابع
دعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم، ومناقشتها

المطلب الأول
دعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

يعتقد المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض الأنبياء والصالحين، وأن في قلبه ضغينة وحقداً عليهم، وإذا سئلوا عن سبب هذه النظرة منهم إليه، وعن مبرراتها؟.
أجابوا: بأن الاستشفاع بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد موته جائز، وأنه لا يلزم من الاستشفاع به عليه الصلاة والسلام بعد موته أن يكون المستشفع قد عبده من دون الله، أو اتخذه إلهاً ورباً، وشريكاً لله - عز وجل - في الإلهية، وأن من جعل بين هذين الأمرين تلازماً فقد أُتي من جهله، وسوء فهمه، وعدم تعقله(209) .
ويرون أن الاستشفاع بالأموات قد أقرت به القرون الأولى إلى أن جاء ابن تيمية رحمه الله ثم حرمه بعد ذلك من عند نفسه (210).
وأجابوا - أيضاً - بأن التبرك بآثار الصالحين جائز، قد أقر به الصحابة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن بعدهم، إلا أن ابن تيمية رحمه الله يحرم هذا النوع من التبرك (211).
ومن تبريرهم لبغض شيخ الإسلام رحمه الله للأنبياء والصالحين: أنه ينكر الاستغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما قال السبكي (ت - 756هـ) : (اعلم أنه يجوز، ويحسن التوسل، والاستغاثة، والتشفع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه سبحانه وتعالى...، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء)(212) .
وقال ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (من خرافات ابن تيمية التي لم يقلها عالم قبله، وصار بها بين أهل الإسلام مُثلة: أنه أنكر الاستغاثة والتوسل به صلّى الله عليه وسلّم) (213).
ويرون أن الاستغاثة بمخلوق لا تكون عبادة له إذا صاحبها إيمان بالله وحده.
فإذا كان المستغيث بمخلوق مؤمناً بالله، فلا يكون عابداً لهذا المخلوق، إنما عبوديته لله وحده (214).
ويرون أن المنع من الاستغاثة بالكلية مصادم للأحاديث الصحيحة، ولفعل السلف والخلف(215) ، وقد قال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115] .
ويستشهدون لجواز الاستغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بقصص، وأخبار وأشعار(216) ، أشهرها قصيدة البوصيري(217) ، وفيها قوله:
يا أكرم الرسل مالي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي *** إذا الكريم تحلّى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم(218)
ومنها قوله - أيضاً - في همزيته:
الأمان الأمان إن فؤادي *** من ذنوب أتيتهن هواء
قد تمسكت من ودادك بالحبـ **** ل الذي استمسك به الشفعاء
فأغثنا يا من هو الغوث والغيـ *** ث إذا أجهد الورى اللأواء(219)
 
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
لا يزال المناوئون يفترون على ابن تيمية الكذب، ويلصقون به أشد التهم ظلماً وعدواناً، وقد تحدثت مراراً عن تعظيم ابن تيمية رحمه الله للأنبياء، ومحبته لهم في مواضع متعددة، وها هو رحمه الله ينقل - مرتضياً - عن القاضي عياض (ت - 544هـ) عن مالك (ت - 179هـ) رحمه الله أنه كان لا يحدث بحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا وهو على وضوء إجلالاً له.
وقد سئل مالك (ت - 179هـ) رحمه الله عن أيوب السختياني(220) فقال: (حج حجتين فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت كتبت عنه).
وقال مالك (ت - 179هـ) - أيضاً -: (كنت أرى جعفر بن محمد(221) وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلّى الله عليه وسلّم اصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، قال: ولقد رأيت عبد الرحمن بن القاسم(222) ، يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم).
وقال: ولقد رأيت الزهري(223) وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي صلّى الله عليه وسلّم فكأنه ما عرفك، ولا عرفته (224).
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من الصحابة فهو موقف التعظيم والتقدير، فيعتقد أن محبتهم من الإيمان، ويعتقد أنهم خيار المؤمنين فقال: (وأصحاب رسول صلّى الله عليه وسلّم خيار المؤمنين، كما ثبت عنه أنه قال: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (225)، وكل من رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به فله من الصحبة بقدر ذلك) (226).
ويعتقد أنهم أكمل الناس عقلاً، وأصحهم معرفة وعلما، فقال: (فهل سُمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولاً، وأكمل أذهاناً، وأصح معرفة، وأحسن علماً من هؤلاء؟ - أي الصحابة -) (227)، وسأتحدث عن موقفه من الصحابة بشيء من التفصيل في الفصل القادم - إن شاء الله -.
ومن جهة أخرى: فقد حذر القرآن عن اتخاذ أولياء من دون الله بإعطائهم منزلة مثل منزلة الباري - عز وجل - في صرف بعض أنواع العبادة لهم كالاستغاثة، والدعاء وغيرهما، فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] ، وقال عزّ وجل: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] ، وقال سبحانه: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الأنعام: 14] .
وأما دعوى المناوئين أن الاستشفاع بالموتى، أو التبرك بآثارهم، أو الاستغاثة بهم دليلٌ على محبتهم، وأن من لم يفعل ذلك فليس محباً لهم: فهذه الدعوى باطلة والتلازم باطل، فلم يأمر الله - عز وجل - به، ولا أمر به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا فعله الصحابة الكرام، وإنما ضابط المحبة هو الاتباع والتأسي، كما قال الله عزّ وجل: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 31] وقال - سبحانه -: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21] .

وأما الاستشفاع: وهو طلب الشفاعة: فهذا له أحوال:
الحال الأولى : طلب الشفاعة من الشخص، وهو حي قادر، فهذه شفاعة جائزة، والشافع يشفع بحكم جاهه ومنزلته عند المشفِّع، كما قال الله - عز وجل -: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } [النساء: 85] ، والشافع سائل لا تجب طاعته، وإن كان عظيماً كما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سأل بريرة (228) أن تمسك زوجها، ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها، فجعل يبكي، فسألها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تمسكه، فقالت: أتأمرني؟، قال: «لا إنما أنا شافع» (229)، فدل على جوازها، ولو لم تكن جائزة لم يعملها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وحقيقة الاستشفاع بالشخص: الاستشفاع بدعائه، كما في حديث الأعمى حين علمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: (اللهم فشفعه فيّ) أي اقبل دعاءه.
قال ابن تيمية رحمه الله (معنى الاستشفاع بالشخص - في كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه - هو استشفاع بدعائه، وشفاعته ليس هو السؤال بذاته، فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق) (230).
أما طلب الشفاعة من غير القادر فهذا عبث، وأما طلبها من الحي الغائب فهذا مرتبط بالحال الثانية وهي طلبها من الميت.

الحال الثانية : طلب الشفاعة من الميت: فهذه محرمة باطلة، ولا يوجد نص عن أي نبي من الأنبياء أنه أمر بالاستشفاع به بعد موته (231).
ومخاطبة الميت - أيا كان نبياً أو ولياً - وطلب الشفاعة منه لا تجوز، قال ابن تيمية رحمه الله: (إن دعاءهم - أي الأنبياء والصالحين -، وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال - أي بعد موتهم - يفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة، فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه) (232).
وطلب الدعاء والشفاعة من الموتى، والغائبين هو أصل الشرك، وهذه هي صورة اتخاذ المشركين شفعاء من دون الله، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام: 94] ، وقال: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأنعام: 51] ، وقال: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] .
وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ: 22 - 23] .
ومن المعلوم في بداهة العقل أن الاستشفاع بأحد يلزم منه علم الشافع بهذه الشفاعة، والميت إذا استشفع به فإنه لا يعلم بهذه الشفاعة بحكم موته، وعليه فإن الشفاعة باطلة من أساسها، يقول ابن تيمية رحمه الله: (يقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تشفع به، من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه، ولا شفع له... وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل، ولا طلب له حاجة، بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة، ولا في كلام من يدري ما يقول) (233).

الحال الثالثة : طلب الشفاعة يوم القيامة: وهذه جائزة إذا توافرت فيها شروط قبول الشفاعة وهي:
1 - إذن الله للشافع أن يشفع، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
2 - رضى الله عن المشفوع له، كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28] ، وقد جمع الله هذين الشرطين في قوله - تعالى -: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم: 26] .
3 - إسلام المشفوع له، كما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ } [غافر: 18] (234).
4 - قدرة الشافع على الشفاعة، كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ، وقال: { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: 86] .
هذه هي شروط الشفاعة المثبتة، وأما الشفاعة المنفية فهي التي يتخلف عنها أحد شروط الشفاعة المثبتة، أو كل شروطها، فعلى سبيل المثال: لو توافرت جميع شروط الشفاعة إلا إذن الله للشافع أن يشفع لما صحت الشفاعة، ولما قبلت، فلا تكون شفاعة الشافعين مقبولة إلا إذا كانت بإذن الله - عز وجل -، وما وقع بغير إذنه لم يقبل، ولم ينفع، وإن كان الشفيع عظيماً (235).
وفي حديث الشفاعة العظمى الطويل ما يدل على شرط الإذن لقبول الشفاعة وفيه: «فانطلق، فاستأذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن يلهمنيها الله، ثم أخر ساجداً، فيقول: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع» (236).
ومثال ذلك أيضاً: وجوب إسلام المشفوع له، فلا تنفع الشفاعة الكفار كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] ، وقد حذر الله - عز وجل - من الاستغفار للمشركين والشفاعة لهم بقوله: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113] .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي» (237).
لكن هذه الشفاعة تنفع المؤمنين، والعصاة ممن كان معه أصل الإيمان، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين بإحسان، وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم) (238).
ودليل ذلك حديث أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله: أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه» (239).
وقال عليه الصلاة والسلام: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله تعالى - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً» (240).
قال ابن تيمية رحمه الله: (مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلّى الله عليه وسلّم يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد، بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال ذرة من إيمان) (241).

وأما التبرك بالصالحين فهو لفظ مجمل لا يتضح الحكم فيه إلا إذا أُزيل الاشتباه والإجمال:
فإن أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بمجالستهم كالانتفاع بعلمهم، أو بدعائهم، أو نصيحتهم، فهذا تبرك مشروع (242).
كما قد بين ابن تيمية رحمه الله أن لفظ التبرك بالصالحين مجمل، ثم بين المعنى الصحيح للتبرك بقول: (أما الصحيح... فببركة اتباعه صلّى الله عليه وسلّم وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح... وأيضاً: إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر، وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق) (243).
إلى أن قال: (فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق، وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقاً، فقوله حق) (244).
وأما إذا أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بآثارهم من بعد موتهم، فهذا باطل، فلم يأمر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا أصحابه، ولا التابعون ومن بعدهم من سلف الأمة، والمؤمن مأمور بمتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر ونهي، بطاعته في فعل الأوامر على الوجه الذي فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأمر به، وكذلك في باب النهي ينتهي عما انتهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونهى عنه.
وقد فرق أهل العلم في الأمكنة التي تعبّد بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو نبينا صلّى الله عليه وسلّم المعصوم الذي أمرنا بالاقتداء به، هل تعبده فيها قاصداً لهذه البقعة، أم تعبده فيها كان اتفاقاً. فإذا كان تعبده فيها قاصداً لها فنحن مأمورون بالاقتداء.
وأما إذا كان اتفاقاً لا قصداً: فجمهور الصحابة أنه لا يُتحرى هذا المكان بالعبادة. ويقال هذا في عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي بركته ذاتية، وله من الخصائص من التبرك في حياته ما ليس لغيره، فيكون الصالحون من باب أولى أن لا يتبرك بآثارهم، ولا مواضع عبادتهم وجلوسهم (245)، وللشاطبي (246) رحمه الله كلام نفيس في هذا حيث يقول: (الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته، ولم يُفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم كذلك علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه - أي الثياب والشعر وفضل الوضوء - أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء) (247).
وأما إذا أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بذواتهم في حياتهم، أو بعد مماتهم بقبورهم، أما في حياتهم فكالتمسح بهم، أو تقبيلهم تبركاً، وأما بعد مماتهم فكالتمسح بقبورهم، وتقبيلها تبركاً، أو مجاورة القبر رجاء البركة، أو الدعاء عند القبر رجاء بركته، فكل هذا باطل لم تأت به شريعة إلهية، وقد قال الله عزّ وجل: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (248).
يقول ابن تيمية رحمه الله عن التبرك الباطل المذموم: (وأما المعنى الباطل فمثل أن يريد الإشراك بالخلق مثل أن يكون رجل مقبور بمكان، فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل.. فمن ظن أن الميت يدفع عن الحي مع كون الحي عاملاً بمعصية الله فهو غالط، وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به، وخرج عن طاعة الله ورسوله مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له السعادة.. فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين، وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده، ولا اعتماده) (249).

وسبب النهي عن التبرك بذوات الصالحين أمور منها:
أ - عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن صلاحهم فنرجو لهم.
ب - أن الناس لو ظنوا صلاح شخص، فلا يؤمن من أن يختم له بخاتمة السوء، والأعمال بالخواتيم، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» (250).
جـ - أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع بعضهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
د - أن التبرك بذوات الصالحين لا تؤمن معه الفتنة بالمتبرك به، فتعجبه نفسه، ويورثه الرياء والكبر.
هـ - أنه فتنة للمتبرك أيضاً؛ لأنه جعل سببا ما ليس بسبب، وهذا يوقعه في التعلق بغير الله، فجعل في المتبرك به ما ليس فيه.
و - أن التبرك بالذوات من وسائل الشرك، فيمنع سداً لذريعة الشرك (251).
وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث، ويقول الواقع في بلية: أغثني أي فرج عني، وغوَّث الرجل واستغاث: صاح واغوثاه، والغياث: ما أغاثك الله به (252).
والاستغاثة: طلب الإغاثة، والتخليص من الكربة والشدة (253).
والاستغاثة في الأصل تكون بالله عزّ وجل وحده لما قال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] .
وقال تعالى: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ } [الكهف: 29] ، وقال - سبحانه -: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] .
وأما الاستغاثة بالمخلوق فلا تصح إلا بثلاثة شروط: وهي: أن يكون المستغاث به حياً، حاضراً، أما إن كان المستغاث به ميتاً، أو غائباً، أو أن الأمر المستغاث لأجله مما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك بالله - عز وجل - (254).
يقول ابن تيمية رحمه الله: (واستغاثة الصحابة به صلّى الله عليه وسلّم في القحط؛ إنما استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم، والاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منها) (255).
ويقول رحمه الله: (ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره، أو جلب نفعه) (256).
وينبه ابن تيمية رحمه الله على تقرير هذه الحقيقة، وهي أن الاستغاثة بالمخلوق إذا لم تتوافر شروطها فهي شرك فيقول: (ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام) (257).
وأما دعوى أنه إذا جاز التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد جازت الاستغاثة به، فهذه غير صحيحة؛ لأنه لا يجوز لنا أن نتوسل بذات الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس لنا أن نتوسل بدعائه بعد موته، فالمقدمة باطلة، وأما إن أريد بجواز التوسل به: أي في حياته بدعائه، فنقول: وأيضاً يجوز الاستغاثة به صلّى الله عليه وسلّم في حياته، وحضرته، فيما يقدر عليه.
وأما بعد موته صلّى الله عليه وسلّم فعلينا الإيمان به، وطاعته، وتصديق خبره، ونشهد له أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

وأما التعليل بجوازها بعد موته صلّى الله عليه وسلّم بأنه في مزيد دائم، ولا ينقص جاهه، فهذا تعليل - في حد ذاته - صحيح، ومقبول، إلا أنه لا يصح أن يُربط بجواز الاستغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، ثم إن هذه مسألة شرعية تؤخذ من الأدلة:
فإن الدليل على أن الطلب منه صلّى الله عليه وسلّم ميتاً كالطلب منه حياً، وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يُسأل كما لا يقتضي أن يستفتى (258).
وسبب غلو المخالفين في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو خوفهم من نقص حقه بعد وفاته وإيفائه إياه كاملاً، فوقعوا في شر مما فروا منه، فلو فرض ذنبان: أحدهما: الشرك والغلو في المخلوق، والثاني: نقص رسولٍ من بعض حقه، كان خطأ الثاني دون خطأ من غلا فيه، وأشرك به، يقول ابن تيمية رحمه الله: (فالشرك عند الله أعظم إثماً، وصاحبه أعظم عقوبة، وأبعد عن المغفرة من المنتقص لهم عن كمال رتبتهم ..) (259).
وقال: (وهؤلاء الجهال المضاهون للنصارى غلوا في التخلص من النقص حتى وقعوا في الشرك والغلو وتكذيب الرسول الذي هو أعظم إثماً كما أصاب النصارى.
فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وكان ما فروا إليه من الشرك والغلو وتكذيب الرسل وتنقصهم أعظم إثماً وعقاباً مما فروا منه مما ظنوه تنقصاً..) (260).
وأما الاستدلال على جواز الاستغاثة الشركية بقول الله عز وجل: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [القصص: 15] ، فهذا ليس فيه ما يؤيد جواز الاستغاثة الشركية، فهي استغاثة حي بحي حاضر، على أمر يقدر عليه موسى - عليه الصلاة والسلام - (261).
وأما دعوى أن الاسغاثة الشركية بالموتى لا تكون عبادة لهم إذا صاحبها إيمان بالله، فيجاب عنها بأن من صرف شيئاً مما هو لله لغيره فهو مشرك بالله، وإن لم يسجد ويركع لذلك الغير، ولذا فقد ذم الله أهل الكتاب الذين أطاعوا علماءهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فقال عزّ وجل: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ، وبين ابن تيمية رحمه الله معنى اتخاذهم أرباباً في تحليل الحرام، وتحريم الحلال بأنه يكون على وجهين:
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل وهذا كفر.
الآخر : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب (262).
وقد أطلق صلّى الله عليه وسلّم لفظ العبودية على من تعلق قلبه بالدنيا، وإن لم يسجد لها أو يركع، كما قال عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس» (263).
وعلى هذا فلا يلزم من العبادة أن تكون بركوع وسجود، وكذلك من استغاث بميت فهو مشرك بالله - عز وجل -، وقد يكون قد صرف شيئاً من العبادة لغير الله، ولو لم يصلّ إليه، أو يسجد إليه.
وأما نظم القصائد في المديح، والاستغاثة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد بين ابن تيمية رحمه الله أن هذا العمل ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب بإتفاق أئمة المسلمين (264).
وقد أنكر ابن تيمية رحمه الله على الشيخ يحيى الصرصري (265) ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الاستغاثة به، مثل قوله: بل استغيث واستعين واستنجد، وأنكر على غيره - أيضاً - (266).
أما قصائد البوصيري (ت - 696هـ) التي فيها استغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم استغاثة شركية، فقد نقد ابن تيمية أبياتاً منها، هي أخف من الأبيات المشهورة عنه، والتي ذكرتها في المطلب الأول من هذا المبحث.
فقال في مقام بيان غلو المادحين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ومنهم من يقول أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت.
دع ما ادعته النصارى في نبيهم *** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فإن فضل رسول الله ليس له *** حد فيعرب عنه ناطق بفم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف *** وانسب إلى قدره ما شئت من عظم (267)
لو ناسبت قدره آياته عظما *** أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم (268)) (269)
وأبيات البوصيري الأولى التي فيها استغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإعطائه منزلة فوق منزلته - بأبي هو وأمي - قد ناقشها المناوئون - أنفسهم - في ثنايا كلامهم، وبينوا ما فيها من المبالغات التي لا دليل عليها، وإن كانوا لم يجرؤوا على القول بأنها شرك، فقال أحدهم عن هذه الأبيات: (في هذا مبالغة لا دليل عليها) (270)، ثم ذكر بعض القصص والأحاديث الموضوعة في بيان منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: (وكتب الموالد ملأى بهذه الموضوعات وأصبحت عقيدة راسخة في أذهان العامة) (271)، وقال: (لا يفيد ما ادعاه الناظم من أن علم اللوح والقلم بعض علوم النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذه الدعوى مبالغة ليس عليها دليل.. والمقصود أن الغلو في المدح مذموم لقوله تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } [النساء: 171] .
وأيضاً: فإن مادح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر لم يثبت عنه يكون كاذباً عليه، فيدخل في وعيد «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (272)، وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه.. وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي، وقصة المعراج من مبالغات وغلو لا أساس له من الواقع: يجب أن تحرق، لئلا يحرق أصحابها وقارئوها في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية) (273).
وقد عدّل بعض الأبيات - وليست كلها - التي فيها غلو وشرك، وإن كان تعديله - أيضاً - لا يخلو من ملحوظات (274)، ولذا فإن نقلي عن هذا الكاتب الشاعر المحدِّث ليس من باب الاطمئنان إليه لاعتقاده معتقد السلف، بل في ثنايا كلامه في مقاله السابق، وفي بعض كتبه وفتاويه كلام كثير حول نصرة التوسل البدعي، وشد الرحل إلى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم (275)، إنما كان نقلي عنه من باب قول الله عزّ وجل: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] (276)، إذ بين أن كثيراً من المدائح النبوية التي تقال في الموالد فيها غلو وكذب على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها تلبيس على أذهان العامة، حتى صارت عقائد راسخة لهم لا يبدلونها، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، وأن يجنبنا الفتن، وأن يهدينا صراطه المستقيم.
 
( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. )